مثلت التعددية والتسامح بأرقى معانيهما
رسالة مكة الثقافية في العالم المعاصر
محمد محفوظ
في عالم إنساني حوّله التقدم العلمي والتكنولوجي والاتصالي
إلى قرية عالمية صغيرة، غابت فيها حدود الجغرافيا والمكان،
وتداخلت فيها الثقافات والتصورات والمفاهيم. وفي ظل وضع
دولي يمور بالكثير من الأسئلة والتطورات والتحديات والخيبات،
تتأكد الحاجة والشوق الإنساني إلى منارات يهتدى بها، ومعالم
يقتدى بها، ومناهج علم ومعرفة وهدى، تنير الدروب وتشعل
القناديل، وتجيب على تحديات الواقع، وتنهي خيبات الإنسان
من الكثير من الخيارات واليافطات.
مكة: ضمير الإنسانية وعاصمة العواصم
|
وتبقى مكة المكرمة، المدينة والرؤية، المكان والمشروع،
معقد القلوب والعقول، ومهبط الوحي، ومنارة الهدى وجسر
التواصل بين الماضي المجيد والحاضر المليء بالآمال والهموم،
والمستقبل الذي تنشده مدينة السماء حيث الأمن والحرية
والعدالة والمساواة.. فمكة المكرمة في تجربة الإسلام الأولى،
هي حاضنة العلم والعمل، ووعاء الإرادة والتمكن، وأرض ردم
الفجوة بين الوعد والانجاز ..من هنا فإن مكة المكرمة ومنذ
بداياتها التاريخية الاولي هي تحمل مشروعاً وأملاً للإنسان
الفرد والجماعة.. ذلك المشروع الذي يربط الإنسان بحركات
الأنبياء ومشاريعهم في الإصلاح وإنهاء كل مظاهر الذل والعبودية
التي يعيشها الإنسان في مراحل حياته المختلفة.
مكة ضمير العالم
مكة المكرمة هي مدينة الوحي والقيم الإسلامية النبيل،
حيث في بيوتاتها وأزقتها تجسدت قيم الإسلام في العدالة
والمساواة والاخوة. لذلك فإن رسالة مكة التاريخية للبشرية
جمعاء، بأنها ضمير العالم. حيث تذكر الإنسانية باستمرار
بقيم الخلاص ومبادئ التضامن والتعاون. فهي الضمير الذي
يذكر ويوجّه، يوقظ ويحفز نحو الخير والصلاح.. فمكة المكرمة
هي مدينة القيم والمبادئ، ودورها ورسالتها في الحياة،
هي التذكير الدائم بهذا القيم والمبادئ. ليس للمسلمين
فحسب، بل للإنسانية والعالم كله.. فكما أن في جسم الإنسان
مركزا تلتقي فيه كل الأعضاء، ويقوم بتوجيهها نحو القيام
بوظائفها. كذلك هي مكة المكرمة، فهي عاصمة العواصم، ومدينة
المدن ورسالتها هي أنها مركز الإشعاع ومنبر الهداية وضمير
العالم الذي يوقظ فيهم حس المسؤولية وواجب التعاون. ويحذرهم
من كل ما له من دور في الانهيار الأخلاقي والقيمي.. واليوم
أكثر من أي وقت مضى، تتحمل مكة المكرمة مسؤوليتها التاريخية
والأخلاقية والقيمية، لضبط نزعات التطرف والغلو والتدمير،
وغرس قيم الحرية والتسامح وصيانة الحقوق، وتبشر بالمثل
الأخلاقية التي تعزز من فرص التنمية والسلام والازدهار.
فكما أن مكة المكرمة، قادرة على جمع المسلمين بكل أطيافهم
وأحوالهم وألوانهم لأداء مناسك الحج والعمرة. هي كذلك
قادرة على ممارسة دور الضمير والموقظ وجمع المسلمين جميعاً
حول قيم الشورى والحوار والانفتاح. فمكة المكرمة بما تحتضن
من مقدسات، وبما تشير إليه من رمزية إسلامية مقدسة، هي
المرجعية التي تحتضن جميع المسلمين، وتعمل على استيعاب
كل آفاقهم وتطلعاتهم.
لا ريب أن مكة المكرمة بما تختزن من مقدسات ورموز،
وبما تمثل من عمق تاريخي تليد، بإمكانها اليوم أن تكون
ضمير العالم وصوت الحق والعقل. والقطب الجغرافي والثقافي
الذي يوجّه الإنسانية جمعاء صوب قيم الإخاء والمحبة. فلتتكاتف
جهود المسلمين جميعاً، من أجل أن تكون مكة المكرمة، هي
ضمير العالم وصوته الذي يصدح ويبشر بالخير والطمأنينة
للجميع.
فرسالة مكة الثقافية الأولى للعالم المعاصر، هي خلق
الظروف الفكرية والمعرفية والأخلاقية لتعزيز قيم التسامح
والحوار والتآخي والمساواة والعدالة في المجال الإسلامي
والإنساني. فالثقافة الإسلامية اليوم، بإمكانها أن تمد
الإنسانية بمفاهيم أساسية، تساهم في بناء الأمة وفق مقاييس
حضارية، تأخذ بعين الاعتبار ضرورات المادة، كما تأخذ في
الاعتبار أيضاً ضرورات الروح والمسائل المعنوية.
إن تكامل الوحي الكلي والعقلي الجزئي (على حد تعبير
الدكتور عبدالحميد أبو سليمان) في بناء المعرفة الإنسانية
هو أهم وجوه العطاء الإسلامي للحضارة الإنسانية، وترشيد
مسيرتها في عالمنا اليوم. وإن مهمة الثقافة الإسلامية
في هذا السياق، هي تعديل اللغة والإطار الفكري والعقدي
لمصادر المعرفة العلمية الحديثة التي تقدم هذه المادة
العلمية ووضعها في دائرة الظل الإسلامية وقيمه وغاياته.
وتقدر الثقافة الإسلامية، بما أوتيت من طبيعة جامعة
ما بين الدين والعلم، أن تجنب الواقع المعاصر ما حاصل
فيه من قطيعة بين الدين والعلم، بين الأخلاق والعلم..
فالثقافة الإسلامية تقدم للعالم المعاصر إنسانيتها ومنطقها
الأخلاقي، الذي يعلي من شأن الإنسان ويتشبث بكل العوامل
التي تحافظ على حريته وكرامته. ومن المؤكد أن هذه الإنسانية
والمنطق الأخلاقي الحضاري، لو قدمت بوسائل حضارية منسجمة
وروح العصر. فإنه سيكون لها الأثر الكبير في الفضاء الإنساني
كله. لأنها تجيب عن أسئلته الحائرة وتعطي لحياته معنى
مغايراً وعميقاً، تخرج الإنسان، من حالة القلق الذي لا
حدود لها.
إننا في هذه الحقبة من التاريخ، لا نستطيع أن نقدم
للإنسانية إلا هذه البضاعة، والتي نراها ضرورية لارتقاء
مسيرة الإنسان واكتمال عناصر تطوره وتقدمه. ولا ريب أن
هذه المسألة ليست قضية بسيطة أو سهلة المنال، وإنما هي
عملية شاقة وتحتاج منا إلى العناية بالأمور التالية:
1 ـ الابتعاد عن كل القضايا والمسائل الجانبية والتافهة،
والتي تنتمي بشكل أو بآخر إلى عصور التخلف والانحطاط.
والعمل على صياغة اهتماماتنا وفق حاجات العصر ومتطلبات
النهوض والحضارة.
2 ـ إبراز الجانب الحضاري من منظومتنا العقدية والفكرية،
حتى يتسنى لنا أن نصيغ واقعنا صياغة حضارية، وبعيدة عن
كل ألوان وأطياف فكر التأخر والانحطاط.
3 ـ بناء القدرات الذاتية للأمة على مختلف الصعد والمستويات،
وذلك حتى يتمكن مجالنا الإسلامي من رفد العالم المعاصر
بالمزيد من القيم والنظم الأخلاقية والوقائع الاجتماعية
والاقتصادية التي تؤكد سلامة الاختيارات وصوابية المنهج
الذي يدمج بين المادة والروح، بين العقل والعاطفة، بين
حاجات الدنيا ومتطلبات الحياة الأبدية..
فمكة المكرمة وبما تختزن من إرث تاريخي وثقافي وقانوني،
هي ضمير العالم، التي نقلت الإنسانية من مرحلة إلى أخرى
باتجاه المزيد من عناصر التكامل..
حماية التعددية الفكرية
والثقافية
لعلنا لا نأتي بجديد، حين القول: إن الحياة العلمية
والثقافية للمسلمين قائمة على حقائق وأسس التنوع في منهجيات
البحث والاستنباط والفهم، والتعددية في الأفكار والأولويات
والهموم. فالتعددية الفكرية والثقافية بكل وقائعها وحقائقها،
هي من لوازم حياة المسلمين العلمية والمعرفية. من هنا
فإن مفهوم الوحدة، لا يمكن اكتشافه إلا من خلال منظور
الاختلاف. ذلك لأن الاختلاف جزء أصيل من منظومة الوعي
الذاتي، كما أن (الاختلاف) هو الذي يثري مضمون الوحدة،
ويمده بأسباب الحيوية والفعالية. إذ يقول تبارك وتعالى:
(ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم
إن في ذلك لآيات للعالمين) (الروم 22). وبين الاختلاف
والوحدة مسافات، لا يمكن اجتيازها إلا بالتسامح والاعتراف
بقانون التعدد ومبدأ التنوع.
لذلك فإن الاختلاف المفضي إلى الوحدة الصلبة، هو ذلك
الاختلاف الذي تسنده قيم التعدد والحرية وحقوق الإنسان.
أما الاختلاف الذي يجافي هذه القيم، فإنه يفضي إلى المزيد
من التشرذم والتشتت والتجزئة. وحالات الإجماع والوحدة
في المجتمعات الإنسانية، لا تنجز إلا على قاعدة تنمية
قيم التعاون والتعدد والإدارة الواعية والحضارية للاختلافات
العقدية والفكرية والسياسية.
من هنا ندرك أهمية حضور قيمة العدل في الاختلافات الإنسانية.
حيث إن مجرد الاختلاف، ينبغي أن لا يفضي إلى الظلم والخروج
عن مبادئ وقواعد العدالة. يقول تبارك وتعالى: (يا أيها
الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم
شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا
الله إن الله خبير بما تعملون) (المائدة آية 8). فالاختلافات
الفكرية والاجتماعية والسياسية، ينبغي ألا تكون سبباً
للقطيعة مع قيم العدالة والوحدة، بل وسيلة من وسائل الالتزام
بهذه القيم، وذلك من أجل تحديد مجالات الاختلاف وتنمية
الجوامع المشتركة، لأنها جزء من عملية العدالة المطلوبة
على كل حال.
وحينما يتوافد المسلمون إلى مناسك الحج والعمرة، تتضح
حقيقة التعددية القائمة والشاخصة في حياة المسلمين. حيث
تتعدد القناعات، وتتنوع الميولات والمنهجيات، ولكن صدر
مكة الواسع، ورحابة بيت الله الحرام، تحتضن الجميع وتصون
حرماتهم جميعاً. فمكة المكرمة هي كالأم بالنسبة إلى المسلمين
بكل أطيافهم وتعبيراتهم. فكما تتعدد ميول وأفكار وطرق
الأبناء في الحياة، والأم تتعامل معهم على حد سواء، وترى
في تنوعهم جمالاً كأغصان الشجرة الواحدة، وعاطفة الأمومة
وحنانها يستوعب ويظلل الجميع. وكذلك مكة المكرمة، فهي
حاضنة المسلمين جميعاً بكل مدارسهم وتوجهاتهم وأحوالهم.
وعبر التاريخ كان المسجد الحرام هو جامعة الإسلام الأولى،
حيث تعقد وتنتشر الحلقات العلمية التي تعلم أبناء الأمة
قيم الإسلام وتشريعاته ونظمه ومثله العليا. وينقل لنا
التاريخ مكة المكرمة البعيد والقريب، على أنها كانت حاضرة
العلم الأولى. إذ تتوفر فيها كل حلقات الدرس والتعليم
لمختلف المدارس والمذاهب الإسلامية، ويعيش في كنفها علماء
وفقهاء وقادة من مختلف أقطار الإسلام وأصقاعه. ومكة المكرمة
لا يمكن أن تكون، إلا حاضنة للجميع، وحامية لكل الاجتهادات
الإسلامية. فتوفر لكل العلماء والفقهاء والمصلحين الأمن
والحماية، وتمنحهم القدرة على التواصل مع كل الاجتهادات
والإبداعات والعطاءات الإسلامية.
فرسالة مكة الثقافية، هي رسالة الوحدة والتعددية. الوحدة
التي لا تعني الإقصاء والنبذ والاستبعاد والاستئصال. والتعددية
التي لا تساوي التشريع للفوضى والاندثار. فالوحدة التي
صاغها تاريخ مكة المكرمة، هي الوحدة المستندة على احترام
كل حقائق التنوع والتعددية الموجودة في الأمة. فمكة الكرمة
في تجربتها الثقافية والعلمية، هي جامع وجامعة، توحيد
ووحدة، واجتهاد متواصل لتوحيد الواقع مع المثال.
وصيانة التعددية والوحدة في الفضاء الإسلامي تتطلب
العناصر التالية:
1ـ قدرة نفسية تتجسد في إرادة جمعية وتصميم وتخطيط
مشترك، يتجه إلى تحقيق الانسجام بين الإنسان وحقائق التعددية
والوحدة، وحتى يتسنى له معرفة وملامسة مكامن القوة التي
ينطلق منها في مشروعه الإنساني والحضاري.
2 ـ النفاذ إلى القوانين التي تتحكم بسيرورات تطور
المجتمعات الإنسانية، تمهيداً للوصول إلى معرفة الواقع
الاجتماعي وسياقه التاريخي، وإمكانات الفعل والتطور التي
يزخر بها وجوده.
3 ـ تهيئة النفوس والعقول للتفاعل الإيجابي والحضاري،
مع متطلبات التعددية ومقتضيات الوحدة..
وإن المتغيرات الراهنة، تدفعنا كمجال إسلامي، إلى التفكير
الجدي الموصول بالممارسة والمبادرات الإيجابية الخلاقة،
نحو إحداث تحولات نوعية في مسار الأمة، من أجل مواكبة
التطورات، والمشاركة الإيجابية والفعّالة في سياق التحولات
الراهنة، بما ينسجم وقيم الإسلام ومستلزمات الشهود الحضاري.
الرياض/ 8 فبراير 2005
|