قراءة في كتاب (الشعر في مكة المكرمة والمدينة المنورة)
واقـع الحـجـاز في مرآة الشـعـرالقسم
الأول
1 الاحوال السياسية والاجتماعية
والثقافية
يظل الحجاز بتراثه الاسلامي والتاريخي وأحواله الثقافية
والادبية موضع إهتمام الدارسين قديماً وحديثاً، كما يظل
مادة بحث ثرية لما يضمه سجّل الحجاز من معلومات على درجة
كبيرة من الاهمية تسهّل على الباحثين قراءة واقع الحجاز
في جوانبه المختلفة التاريخية والاجتماعية والثقافية والادبية.
ولعل المتأمل في الجانب الادبي يدرك بأن الحجاز كان قديماً
وحديثاً مركزاً أدبياً رفيعاً فمنه خرج فطاحل الشعر والادب
على مر العصور، سواء في الجاهلية او في الاسلام وحتى اليوم.
وإذا كانت الدراسات التاريخية والاجتماعية والثقافية
قد أولت أهتماماً خاصاً بالعصور القديمة، فهناك من سلّط
الضوء على الادب في القرن الحادي عشر الهجري وكذا العصر
الحديث، فظهرت دراسة الدكتور عائض الردادي بعنوان (الشعر
الحجازي في القرن الحادي عشر الهجري) ودراسة الاستاذ عبد
الرحيم أبو بكر (الشعر في الحجاز في العصر الحديث بين
أعوام 1916 ـ 1948) وكذلك كتاب الاستاذ الدكتور إبراهيم
بن فوزان الفوزان (الأدب الحجازي الحديث بين التقليد والتجديد).
غير أن الدكتور مجدي بن محمد الخواجي وجد فترة زمنية
مشرقة في الادب الحجازي كانت جديرة بالاهتمام الخاص، وهي
القرنين السابع والثامن الهجريين وهي حسب قوله (من الفترات
المنسية في أدب الجزيرة العربية بصفة عامة، وبيئة الحجاز
بصفة خاصة). وقد عثر الدكتور الخواجي في جمع المادة الادبية
والشعرية المتفرّقة لكتابه في بطون بعض المصادر، والتي
من خلالها إستطاع الكشف عن موضوعات الشعر كما تفصح عن
أحداث تاريخية وتجارب حياتية عاشها الشعراء في هذين القرنين،
اللذين يكتظان بأسماء شعراء كُثر عاشوا في مكة والمدينة.
كتاب (الشعر في مكة المكرمة والمدينة المنورة في القرنين
السابع والثامن الهجريين) هو المطبوعة المائة والثامنة
والثلاثون من إصدارات نادي مكة الثقافي الأدبي لهذا العام
1426 ـ 2005، ويأتي بمناسبة الاحتفال بإختيار مكة المكرمة
عاصمة للثقافة الاسلامية. يمثل الكتاب إضافة جديدة في
تأريخ الحركة الادبية والشعرية في مكة المكرمة والمدينة
المنورة، حيث يرصد فيه الحركة الشعرية في القرنين السابع
والثامن الهجريين، ويتعرف من خلال دراسة هذه الحركة على
شعرائها، ممن عاشوا في هذين القرنين أو قضوا جلّ أعمارهم
فيها.
في مستهل الكتاب المؤلف من مجلّدين يقدّم الدكتور الخواجي
لمحة موجزة عن الحياة في مكة المكرمة والمدينة المنورة
في القرنين السابع والثامن الهجريين من النواحي السياسية
والاجتماعية والثقافية بهدف رسم صورة عامة عن أنماط تلك
الحياة المتنوعة التي تأثر بها الشعراء وانعكست على كتابتهم
للشعر وأثرت طاقتهم الابداعية.
الحياة السياسية
يرى الكاتب بأن مكة المكرمة والمدينة المنورة شهدتا
خلال القرن السابع والثامن الهجرية أحداثاً سياسية مضطربة
نتيجة الصراعات الداخلية التي دارت بين أسر الاشراف الحاكمة
في هاتين المدينتين المقدستين الى جانب التنافس الخارجي.
في نهاية القرن السادس الهجري تولَّت أسرة الشريف قتادة
بن إدريس زعيم أسرة الحسنيين زمام السلطة في مكة المكرمة
بعد تغلّبه على بني عمه من أسرة الهاشميين، ثم مالبث أن
تفجر الصراع الداخلي واشتد التنافس الخارجي حيث ظلت مكة
المكرمة ساحة تنافس بين أفراد الاشراف الحسنيين ولم تهدأ
الا في النصف الثاني من القرن السابع الهجري بعد أن تمكن
الشريف أبو نمى محمد بن حسن بن علي في سنة 652هـ من السيطرة
على مكة والاستقلال بإمارتها. ثم نشب الخلاف بين أبي نمى
وعمه إدريس على الزعامة مما شجع دولة المماليك على التدخل
لفض النزاع وقامت بفرض بعض التغييرات التي سهّلت سيطرتها
على مكة وذلك في سنة 667هـ. ولكن السيطرة المملوكية لم
تدم طويلاً حيث إستعان الشريف أبو نمي بالدولة الرسولية
في اليمن وطرد نائب السلطان المملوكي من مكة المكرمة وقد
أغضب ذلك المماليك الذين ألزموا الشريف أبا نمي بالخضوع
لسلطان المماليك والامتثال لأوامر الظاهر ببيرس، ولكن
ابا نمي رفض الولاء لدولة المماليك وفضّل الدولة الرسولية.
وفي سنة 701هـ توفي الشريف أبو نمي وضعفت سلطة الاشراف
الحسنيين على مكة بسبب الخلافات الحادة داخل الاشراف الحسنيين
بالرغم من المحاولات الرامية لتسوية الخلافات الى أن نجح
الشريف عجلان في توطيد الامن منذ توليه إمارة مكة سنة
761هـ حيث ساد الهدوء والاستقرار حتى أن تنازل عن الامارة
لإبنه أحمد في سنة 774هـ. وقد شهد العقد الاخير من القرن
الثامن الهجري صراعات ومنازعات حول الامارة من قبل الاشراف
الحسنيين، والتي عكست نفسها على كتابة الشعر وموضوعاته
في مكة المكرمة.
وقد ترتسم صورة مشابهة للصراعات والاضطرابات السياسية
المتعددة في المدينة المنورة في هذين القرنين. فقد حكم
الاشراف الحسينيون من أسرة بني مهنا المدينة المنورة حيث
تولى الامارة الشريف القاسم بن مهنا في أخريات القرن السادس
الهجري، ثم تعاقب عليها أبناؤه وأفراد أسرته، ولم يكن
أمراء المدينة على وفاق مع الحسنيين من أمراء مكة، حيث
إحتدمت الفتنة بينهم في مطلع القرن السابع الهجري، أي
مع تولي سالم بن قاسم بن مهنا الحسيني إمارة المدينة المنورة،
وقد دخل الأخير في صراع مع أمير مكة الشريف قتادة بن إدريس
ثم تفاقم الصراع في مرحلة لاحقة.
وكما هو شأن الأسرة الحسنية في مكة المكرمة، فقد إحتدم
الخلاف على السلطة بين أشراف المدينة المنورة أواخر القرن
الثامن الهجري. وقد شهدت المدينة إثر تلك الصراعات تدهوراً
أمنياً وسياسياً خلال القرنين السابع والثامن للهجرة،
فما أن يتولى الامارة شخص حتى يتم عزله أو الاطاحة به
من قبل منافسيه أو حساده مما يحدث فوضى داخلية ويهيء للدولة
الخارجية فرص التدخل مثلما تم للدولة المملوكية التي فرضت
سلطانها على شؤون المدينتين إبان هذه الفترة.
الحياة الاجتماعية
تنوعت طبقات المجتمع في مكة المكرمة فهناك الطبقة الحاكمة
من الأشراف وهم الأمراء الحسنيون من أحفاد الشريف قتادة
بن أدريس، وهناك فئة القواد وهم أتباع الأشراف من أمراء
مكة ومواليهم مثل القواد العمرة والحميضات وغيرهم وقد
لعب هؤلاء دوراً رئيسياً في ضبط الاوضاع الداخلية خلال
فترة النزاعات داخل الاسرة، وقد مثّلت قوة مرجحة في الصراع
وكان الامراء بحاجة الى دعم هذه الفئة ومساندتها. ويشكل
الأمراء والقواد النخبة العليا في المجتمع المكي. أما
الطبقة الثالثة فتتمثل في بقية عناصر المجتمع من العلماء
والقضاة وأصحاب المهن والمجاورين ممن قصد مكة من أنحاء
العالم للمجاورة والاقامة وكذا الرقيق والخدم ونحوهم.
وكان للمرأة المكية وضع متميز، فإلى جانب مساهماتها
الانسانية التي تضطلع بها في المجتمع، فقد كانت مشاركة
فاعلة في الحياة العلمية الى جانب أعمال الخير التي تقوم
بها ومساعدة المحتاجين والاسهام الفعلي في النواحي التعليمية
وتولي بعض المناصب كالنظارة على الأوقاف وإدارتها، ومشيخة
بعض الاربطة، ويذكر في هذا الصدد زينب بنت محمد العقيلي،
فقد كانت عالمة وناظرة على بعض الأوقاف، وكذا فاطمة بنت
أبي بكر القسطلاني التي حدّثت وأجازت مجموعة من العيان
وغيرهن.
أما على مستوى العادات والتقاليد السائدة في المجتمع
المكي، فقد نقل المؤلف عن كتّاب الرحلات الحجازية في القرنين
السابع والثامن الهجريين أن من عادات المكيين إكرام الضيوف
والاحفاء بهم والعناية بالحجاج وحسن إستقبالهم وتقديم
المساعدة لهم وإرشادهم الى طرق المناسك. ومنها أيضاً إهتمام
المكيين باللباس وتأنقهم فيه، فملابسهم ناصعة البياض وكذا
عنايتهم بالمأكل والمشرب، واستعمالهم للكحل والطيب والسواك.
أما نساء مكة فأكثرهن فائقات الحسن، بارعات الجمال، يشتهرن
بالصلاح والعفاف ويقصدن البيت الحرام فيه والصلاة وبخاصة
كل ليلة جمعة، مع حبهن الشديد للطيب لدرجة إستبداله بالقوت
والطعام. ومن عادات المكيين أنهم لا يأكلون في اليوم إلا
مرة واحدة بعد العصر، ويأكلون التمر في سائر النهار، وللمكيين
إحتفالاتهم الدينية عند استهلال الشهور ولاسيما رمضان
وذي الحجة وغيرهما حيث تدق الطبول وتوقد المشاعل في المسجد
الحرام.
أما في المدينة المنورة فتنوعت التركيبة السكانية من
طبقة الأشراف بني مهنا الحسينيين وهم أمراء المدينة وقد
سكنوها وما حولها. ومن الانصار الذين هم أهل المدينة الاصليون
من الأوس والخزرج وقد تفرقت مجموعة منهم في الاقطار الاسلامية
وبقيت منهم أسر لها مكانتها كالبكريين والعمريين، وهم
جماعة كثيرة لهم شوكة وحرفة وحكمة نافذة، وكانوا أهل حشمة
وخيل وعبيد وأتباع ولهم بالمدينة أملاك عظيمة، ثم فئة
المجاورين سواء أكانوا علماء، أم طلبة علم ثم غيرهم من
أصحاب الحرف والمهن المختلفة. وأخيراً الفئة التي تشرف
على صيانة الحرم والحجرة الشريفة وهم من أجناس مختلفة.
أما عن عادات أهل المدينة المنورة فقد أشتهر عنهم إحتفاؤهم
بالحجيج واستقبالهم الجميل لزوار المدينة مهنئين إياهم
بالقدوم المبارك الى مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ولأهل المدينة عادات وتقاليد في الزفاف والوفاة والولادة،
فمن عاداتهم في مواليدهم أن الطفل إذا مضى عليه أربعون
يوماً غسّلوه ونظّفوه وألبسوه ملابس بيضاء جميلة ثم إنطلقوا
به الى الحرم الشريف للدعاء له بالخير والصلاح، ثم يسلّم
لأمه فتأخذه فرحة باشة. ومن عاداتهم في شهر رمضان المبارك
أنهم يتناولون إفطاراً خفيفاً عند المغرب في المسجد النبوي
فقراء وأغنياء، ثم ينصرفون بعد صلاة المغرب ليفطروا الافطار
الثاني، ثم يعودون لصلاة العشاء والتروايح.
الحياة الثقافية
بعد فترة ركود وضعف امدو حوالي ثلاثة قرون من الرابع
الى السادس الهجري، فقد نشطت الحياة الثقافية في مكة المكرمة
في القرنين السابع والثامن الهجريين. وقد ساهمت عوامل
عديدة في النهوض بالحياة الثقافية ومن إبرزها تشجيع الأمراء
من الاشراف الحسنيين وعنايتهم بنشر العلماء وتشجيع العلماء،
حيث انعقدت مجالس العلم لكبار العلماء تجلّت فيها روح
البحث العلمي. وقد ساعد بعضهم في إنشاء المدارس كعجلان
بن رميثة الذي أنشأ مدرسة في الجانب الشمالي من المسجد
الحرام وقام على رعايتها، وكان حريصاً على حضور مجالس
العلم ومجالسة العلماء، وقد أوصى بأن يدفن مع فقهاء السنة.
وقد حظي العلماء برعاية الأمراء، فكان الامير حسن بن
عجلان يكرم العلماء ويجالسهم وكان هو نفسه حريصاً على
التعلم في أيام شبابه. وما يجدر ذكره أن للماليك شأناً
بارزاً في تطور الحركة العلمية والثقافية في مكة ونشاط
بيّن في تشجيعها والنهوض بها حيث فتحوا المدارس والكتاتيب
وأقاموا الاربطة وقرروا دروساً علمية، كما أوقفوا على
المدارس ونحوها أوقافاً كافية. وقد ساهم سلاطين بني رسول
في اليمن أيضاً في اقامة بعض المنشآت والمعاهد العلمية
في مكة المكرمة بل كانت عنايتهم بالمدارس في الحجاز تفوق
عناية المماليك وأمراء الحجاز أنفسهم كما يظهر في عدد
المدراس التي أقاموها في الحجاز.
وكان للمرأة الحجازية مساهمات جليلة في الحركة العلمية
وتطورها في القرنين السابع والثامن الهجريين، وقد زخرت
كب التراجم بأسماء عديدة من النساء العالمات وأشادت بنشاطهن
العلمي، ويلاحظ أن معظمهن كن يعتنين بعلم الحديث منهن
على سبيل المثال خديجة بنت علي بن أبي بكر الطبري الذي
عرف عنها إهتمامها بعلم الحديث وقد روت بالاجازة عن جماعة
من الشيوخ، وحدّثت واشتهر علمها وفضلها.
وتعد العلوم الشرعية أكثر إزدهاراً من غيرها في مكة
خلال هذه الفترة إذ برز فيها مجموعة من العلماء الذين
أسهموا في التدريس والتأليف في شتى أنواع تلك العلوم وكان
ذلك بتشجيع أمراء الحجاز وكذا سلاطين المماليك وغيرهم
وقد لمعت أسماء عدد من العلماء ممن تخصصوا في علوم القرآن
والتفسير والحديث والفقه والمنطق وعلم الكلام وسواها،
ففي علوم القرآن نجد: أحمد بن عبد الله بن محمد الطبري
وله مصنفات متعددة في علوم القرآن والقراءات (كالكافي)
في غريب القرآن و(كتاب القراء)، وفي علم التفسير برزت
أسماء عديدة منها: قطب الدين محمد بن أحمد القسطلاني وله
كتاب (تفسير آيات من القرآن الكريم) ومحمد بن عبد الله
السلمي وله (التفسير الكبير).
أما في الحديث فقد اشتهر محمد بن يوسف الأزدي المعروف
بإبن مسدى، وله كتب عدة منها (الأربعون المختارة في فضل
الحج والزيارة)، وكذا عبد الصمد بن عبد الوهاب الدمشقي
وله (أحاديث عيد الفطر) و(جزء فيه أحاديث السفر).
وتعددت كتب الفقه في هذا العصر وبرع في ذلك مجموعة
من الفقهاء على المذاهب الاربعة غير أن أغلبهم كانوا من
الشافعية ومنهم الفقيه سليمان بن خليل العسقلاني وله كتاب
في المناسك وأحمد بن موسى بن علي المكي المعروف بإبن الوكيل
الشافعي وله (مختصر المهمات) وغيرهم.
الى جانب ذلك فهناك علوم اللغة والنحو، وامتد اهتمام
العلماء الى الأدب والشعر من مثل محب الدين الطبري الذي
ألّف (القبس الأسنى في كشف غريب المعنى) و(الدرة الثمينة
في مدح النبي صلى الله عليه وسلم) وله ديوان شعر وعبد
الله بن أسعد اليافعي وابراهيم ابن عبد الله القيراطي
ونحوهم.
وفي المدينة المنورة أخذت النهضة الثقافية شكلها المتميز
في تزايد حلقات العلم مع أنها لم تكن لتضاهي ما كانت عليه
مكة المكرمة. وقد اشتهر في المدينة في هذين القرنين ما
يعرف بالكتّاب التي يلتحق بها الأبناء منذ الصغر، وهي
تمثل مرحلة يتهيأ فيها الصبي للانضمام الى الحلقات في
المسجد النبوي أو الرباط أو المدرسة ونحوها، وكان سبب
نشوئها الرغبة في تعليم الايتام، ولذا أقبل أهل الخير
على إقامتها وحبس الاوقاف عليها وسمي بعضها مكاتب السبيل
أو مكاتب الايتام.
وفي المدينة المنورة أخذت النهضة الثقافية شكلها المتميز
في تزايد حلقات العلم مع أنها لم تكن لتضاهي ما كانت عليه
مكة المكرمة. وقد اشتهر في المدينة في هذين القرنين ما
يعرف بالكتّاب التي يلتحق بها الأبناء منذ الصغر، وهي
تمثل مرحلة يتهيأ فيها الصبي للانضمام الى الحلقات في
المسجد النبوي أو الرباط أو المدرسة ونحوها، وكان سبب
نشوئها الرغبة في تعليم الايتام، ولذا أقبل أهل الخير
على إقامتها وحبس الاوقاف عليها وسمي بعضها مكاتب السبيل
أو مكاتب الايتام.
وقد كان للمدارس مشاركة فعالة في الحياة الثقافية والعلمية
في المدينة المنورة كما ظهر ذلك بجلاء في المدرسة الشهابية
التي أسسها الملك المظفر الأيوبي شهاب الدين غازي وأوقفها
على المذاهب الاربعة ورصد لها أوقافاً كثيرة متفرقة، وهكذا
المدرسة الشيرازي وكان مؤسسها من اهل شيراز وقد أشرف عليها
الشيخ ابراهيم العريان وقد أقام بها مدة خمسين سنة وقام
بترميمها وعمارتها كما اشترى نخلاً وأوقفه عليها، والمدرسة
الجوبانية نسبة الى جوبان بن تدوان وقد أسسها سنة 724هـ
وغيرها من المدارس.
وقد تبين من أحوال بعض تلك المدارس أنها (إما أن تكون
أربطة سابقة أو منازل هدم وأعيد بناؤها في موضعها ليتناسب
وأغراض المدرسة، وتقع أغلب تلك المدارس بجوار المسجد النبوي،
وربما تتكون في الغالب من طابقين يسكن الاعلى منها الطلبة،
والأسفل المدرسون والمسؤولون عنها، ويكون في المدرسة في
العادة قاعة كبيرة أو قاعتان كما هو الحال في المدرسة
الشهابية وذلك في الطابق الأسفل، وتخصص القاعة الكبيرة
لإلقاء الدروس فضلاً عن بعض المرافق الأخرى كالخلاوي وصهاريج
المياه).
وقد برزت في غضون هذه الفترة أسرة كثيرة عرفت بالعلم
والحرص عليه، وظهر عدد كبير من العلماء إشتغلوا بعلوم
الشريعة واللغة ونحوها مثل الشيخ عبد العزيز بن زكنون
التونسي وكان عالماً فاضلاً في علم القراءات، وأبي عبد
الله محمد بن غصن القصري الأنصاري، وكان متبحّراً بالقراءات،
ومن علماء القراءات أيضاً محمد بن صالح بن إسماعيل الكناني
المدني.
وفي علم الحديث إشتهر عبد الله بن محمد بن أبي القاسم
فرحون وله فيه مؤلفات منها كتاب (الدر المخلص من التقصي
الملخص) وقد شرحه بكتاب آخر سمّاه (كشف الغطاء في شرح
مختصر الموطأ) وله كتاب (كفاية الطلاب في شرح مختصر الجلاب)،
وكذا أخوه علي بن محمد بن أبي القاسم فرحون وله كتاب (شرح
حديث أم زرع)، والشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن الامين
الأقشهري، وقد أثنى عليه مجموعة من العلماء والمؤرخين،
وذكروا أنه عمل على تدوين الحديث ورجاله، وصنّف تصانيف
كثيرة، واختصر مطولات عديدة.
وبرزت في الفقه أسرة آل فرحون، ومنهم شمس الدين محمد
بن فرحون وإبنه عبد الله بن محمد بن فرحون، وحفيده إبراهيم
بن علي الذي ألّف مجموعة من الكتب في الفقه والأحكام مثل
(منضدة الأحكام) و(إرشاد السالك الى المناسك) وكذا الفقيه
ابو الربيع سليمان الغماري الذي كان فقيه المدينة ومفتيها
على مذهب الامام مالك.
وفي التاريخ فقد برز التأليف فيه خلال القرنين السابع
والثامن للهجرة في المدينة المنورة، وبخاصة فيما يتعلق
بفضائل المدينة، ومعالمها، وتراجم أعلامها المشهورين رجالاً
ونساءً على نحو كتاب (الروضة الفردوسية والحضيرة القدسية)
لمحمد بن أحمد بن أمين الاقشهري، وكتاب (التعريف بما آنست
الهجرة من معالم دار الهجرة) لجمال الدين محمد بن أحمد
المطري، وهو من أهم الكتب التي تعرض لذكر المدينة والمسجد
النبوي والآثار والمعالم.
أما التراجم فقد إشتهر خلال هذه الفترة كتاب (نصيحة
المشاور وتعزية المجاور) لعبد الله بن محمد بن فرحون المتوفي
سنة 769هـ، وقد شمل مجموعة من تراجم الأمراء الأشراف والعلماء
والقضاة والصالحين وغيرهم، ولقد بلغ الاهتمام بتاريخ المدينة
أن تم تخصيص بعض الحلقات في المسجد النبوي لتدريسه. ويبدو
أن تدريس فن التاريخ قليل بالمقارنة مع باقي العلوم رغم
شدة عناية علماء المدينة المنورة وغيرها بالكتابة عن تاريخ
المدينة والمسجد النبوي.
ورغم ما يتبادر للذهن بأن الحركة العلمية في المدينة
كانت مقتصرة على العلوم الشرعية وحدها، الا أن دراسة تراجم
علماء المدينة أو من جاوروا فيها تكشف بجلاء أن تحصيلهم
العلمي ومعارفهم العامة تتجاوز العلوم الشرعية الى علوم
أخرى، فكان بروز عالم في جانب من العلم لا يعني أنه لا
يحسن غيره من جوانب العلم الاخرى، فقد كان اهتمام العلماء
متشعباً متنوعاً.
|