تشويه الروح في المدن المقدّسة
صراع الأمراء على مكة
طمس آثار الاسلام في مكة المكرمة تحت ضغائن الوهابية
ليس سوى وجهاً لمحنة المدينة المقدّسة، وهناك وجه آخر
لا يقل بشاعة، متمثلاً في التنافس المحموم بين أفراد العائلة
المالكة كباراً وصغاراً من أجل وضع اليد على كل شبر في
هذه المدينة المقدّسة، مهبط الوحي، ومصدر النور، شأنها
شأن المدينة المنورة، مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
بلغ التنافس بين الأمراء الكبار حد التقاتل وأطلقوا
قطعانهم يجوبون السهول والتلال والجبال في مكة المكرمة
لاقتطاعها ووضعها تحت حيازة هذا الأمير وذاك. فقد أصبحت
كل جبال مكة تحت سيطرة الأمراء تحيّناً لفرصة إستثمارية
مستقبلية، حيث يتم تجيير مشاريع التمدين بما يخدم مصادرات
الأراضي، من قبيل فتح شوارع جديدة في الضواحي والقرى القريبة
من مكة المكرمة.
كثيرة هي قصص مصادرة الأراضي، وكثيرة هي مآسي أهالي
مكة الذي فقدوا عقاراتهم بفعل قيام أزلام الأمراء بانتزاع
الممتلكات عنوة بالترهيب والتهديد تارة والمكر والخداع
تارة أخرى. لم يردع الأمراء قلة حيلة الفقراء والمالكين
الأصليين، دع عنك الخوف من الله عز وجل وقدسية الأرض التي
يقترفون عليها جريمة إنتهاك حقوق الله وحقوق العباد.
استباحة مكّة سعودياً ووهابياً
|
فمنذ أن شعر المالكون الاصليون في المدينة المقدّسة
بأن عملية نزع ملكية عديد من العقارات المملوكة من قبل
أهالي مكة قد بدأت، بحجة توسعة الطرق وإقامة مشاريع عمرانية،
طالب كثير من سكان مكة أمانة العاصمة المقدسة بتوثيق بيوتهم
والحصول على صكوك على منازلهم المملوكة بوثائق أسوة بأمانات
المناطق الأخرى. الجدير بالذكر أن نسبة المنازل المملوكة
بوثائق في مكة المكرمة كبيرة وهناك منازل بالمنطقة المركزية
لا تزال مملوكة بوثائق حتى اللحظة مطالبين أهلها بوضع
تنظيم جيد من خلال منح أصحاب هذه المنازل المملوكة بوثائق
خصوصاً وأن تسوية وضع هذه المنازل بمنح ملاكها صكوكاً
تعتبر مصيرية بالنسبة لكثير من الأسر الضعيفة والفقيرة.
وكان أسامة فرغلي خبير عقاري أن معظم الأحياء العفوية
تنقصها الخدمات بشكل واضح فهذه الاحياء تعتبر من الاحياء
العشوائية لدى الامانة واستخراج صكوك لهذه المنازل يعني
توفر الخدمات بشكل فوري. في المقابل، هناك ضغوطات يمارسها
الأمراء على أمانة العاصمة المقدّسة من أجل وقف البت في
هذه القضية الأمر الذي يسمح للأمراء بوضع اليد على أكبر
قدر من البيوت والأراضي غير الحائزة على صكوك ملكية بحجة
أن (نسبة عدد المنازل المملوكة بوثائق ضعيفة جداً بمكة
ولا تصل لحد الظاهرة).
ومما يذكر في هذا المجال الواسع والمشحون بآلام وغصص
ما حصل لأمين العاصمة المقدّسة السابق الدكتور خالد نحّاس،
الذي قدّم استقالته قبل شهور قلائل. خلفية الاستقالة تبدأ
من طلب تقدّم به الأمير متعب بن عبد العزيز وزير الشؤون
البلدية والقروية لأمين العاصمة المقدّسة، والطلب عبارة
عن مليوني متر مربع في مكة المكرمة، فردّ عليه الدكتور
نحّاس بأنه لا يوجد أرض بهذه المساحة في كل أرجاء مكة،
فطلب منه أن يبحث له عن عدة قطع من الأراضي بحيث يصل مجموع
أمتارها مليوني متر مربعاً، فرفض الدكتور خالد نحّاس طلبه
وقرر الإعتكاف ثم لمّا لم يجد سبيلاً للحيولة دون تنفيذ
الأمير الوزير مأربه غير النبيل وغير الشرعي تقدّم بطلب
الإستقالة من منصبه فتم قبول الطلب على الفور، وتم تعيين
أمين جديد، وهو المهندس أحمد بن علي با يزيد.
لقد فتحت استقالة الدكتور نحّاس الطريق أمام الأمير
متعب لأني يأتي بشخصية متسامحة مثل المهندس بايزيد ليحلّ
مكان الأمين السابق للعاصمة المقدّسة، وليشرع في تنفيذ
مشاريع تنسجم مع ما وضع الأمير وأخوته وأبناؤهم الأيدي
عليه من أراضي وعقارات. منذ استقالة الدكتور نحّاس بدأت
تسير سياسة أمانة العاصمة المقدسة على وقع تطلعات الأمراء.
لم يكن الملك عبد الله بعيداً عن حلبة التنافس المحموم
بين الأمراء الكبار والصغار، فقد أصبح طرفاً ناشطاً وبات
يمارس ذات الأدوات المستعملة لدى اللصوص الكبار، وهبط
الى حيث هبطوا في مزاحمة الفقراء في أرزاقهم، والمعدمين
في لقمة عيشهم، فقام مؤخراً بمنح إبن الأمير نواف بن عبد
العزيز (رئيس الاستخبارات السابق) إحتكار التموين الغذائي
للحجاج، ما يهدد حياة شريحة كبيرة من المطوّفين الحجازيين
الذين لا مصدر رزق لهم طيلة العام سوى ما يجنونه خلال
موسم الحج من تقديم خدمات الطواف وتوفير الطعام والشراب
لحجاج بيت الله الحرام.
تجدر الاشارة الى أن الملك عبد الله الذي يراهن البعض
على وقفته مع الفقراء والمحتاجين ينخرط في معارك الأمراء
في الداخل بكل تفاصيلها، وقد دخل في سجالات عدة على مناصب
في المدن المقدّسة كان آخرها، ما حصل بعد غياب أمير مكة،
الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز، الذي أمضى عاماً خارج
الإمارة بسبب مرضه بالسرطان، ولم يكن له نائب عنه أو وكيل
عنه، فأراد الملك عبد الله تعيين أحد أبنائه خالد، ولكن
السديريين عارضوا هذا الأمر بشدة، ومازالت القضية عالقة
بين الملك والعصبة السديرية.
مما سبق يدعو للقول بأنه لم تعد صورة المدن المقدسة
تحتفظ بزخمها الروحي الذي يفترض أن يضفي على الزائرين
نفحة الإيمان وعبق التاريخ المقدّس للاسلام، فقد أقام
الأمراء مشاريع بكسوة غربية فارهة تحيط بالأماكن المقدّسة
التي انبعث منها نور الرسالة الاسلامية. فقد تشوّهت الروح
المقدّسة في مكة والمدينة بفعل اندساس الجشع في ثنايا
تلك الروح عبر سلسلة من القصور والعمارات الشاهقة التي
بدت وكأنها إجتياح همجي يهدف الى طمس معالم تاريخ عريق،
حيث يحيل الاحتياج تلك المعالم الى مجرد هياكل فارغة أو
إدماجها في عالم الجشعين الجدد الذين لا حدود يحول بينهم
وبين اقتراف المزيد من التمدد الفارط في جنوحه والمهدد
بزوال ما بقي من آثار الاسلام طمعاً في جني المزيد من
الربح، وإن تطلب ذلك الزحف على حدود المقدّسات.
مكة المكرمة، المدينة الأقدس في الإسلام، ومولد المصطفى
محمد صلى الله عليه وسلم والقبلة التي يتوجه اليها المسلمون
في أنحاء العالم خمس مرات في اليوم، ويحجّ إليها نحو مليوني
مسلم فيما يزورها المعتمرون بعشرات الملايين كل عام، طلباً
للمغفرة والرحمة من رب البيت الحرام.. هذه المدينة تشهد
تشويهاً خطيراً لصورتها، وتاريخها، وهويتها، وتراثها.
من جهة ثانية، فإن هذه التجربة الروحية تتعرض للتشويه
من خلال بناء ناطحات سحاب على مسافة قريبة للغاية من باحة
الحرم الشريف، ومنها برج زمزم بكلفة 390 مليون دولار،
الذي يلوح فوق بيت الله عز وجل.
لقد انتشرت ظاهرة ناطحات السحاب في مكة المكرمة والمدينة
المنورة التي أحدثت إنقساماً بين المسلمين بفعل ما أصاب
المدينتين من عمليات تشويه متعمدة لتراث الإسلام وآثار
الصفوة الطاهرة التي قدّمت دماءها حفظاً لدين الإسلام،
ودفاعاً عن وجوده واستمراره. تحت ذريعة توسعة الحرمين
طمست نفائس التاريخ الاسلامي وآثاره الجليلة. لقد بنت
مجموعة بن لادن، الشركة المعمارية التي أسسها محمد بن
لادن، والد أسامة بن لادن، والتي تعمل كغطاء لمشاريع يعود
ريعها للملك فهد وأبنائه وتحديداً الأمير عبد العزيز بن
فهد وأمراء آخرين مثل الأمير نايف. وتدير مجموعة بن لادن
برج زمزم التي تقدّم عرضاً عبارة عن سكن خمسة نجوم، ومركز
تجاري، ومطاعم، وموقف للسيارات.
يقول البعض بأن ناطحات السحاب ودورة المال الكامنة
تعمل ضد روح الحج، القائم على النقاء، والمساواة، والبساطة.
وتزعم السلطات السعودية بأنها ستستعمل الدخل المالي
الأولي للحفاظ على الأماكن المقدّسة، ولكن ليس هناك شيء
يمكن أن يحول أمام الملاّك بشأن بيع أو إعادة تأجير حصصهم
على قاعدة الملكية لمدد زمنية محددة بأسعار متضخمة. ويقول
عرفان أحمد العلوي، المؤرخ والرئيس المشارك لمؤسسة التراث
الاسلامي، التي تدافع عن مواقع الآثار التاريخية والاسلامية
في مكة بأن (السهم لمدة زمنية محددة هو إستثمار وبيع المدينة
المقدسة).
إن العذر الذي تقدّمه الحكومة السعودية بأن ليس هناك
مبان سكنية كافية، ولكن السؤال، كما يقول العلوي، هل أنت
في واقع الأمر بحاجة لأن تكون بالقرب من المسجد الحرام
وبيت الله؟ ففي برج زمزم تسهيلات غير ضرورية، مثل المركز
التجاري، والمطاعم في فترة أداء الحج. إن أرضية المرمر
وسكن الخمس نجوم لن يعزز الحج ولن يجعل منك مسلماً أفضل
من غيرك. إن الفكرة هي أنه حين تصنع الربح يعتبر عملاً
جنائياً. إن مثل هذه المخالفة وعدم الاحترام لم تكن ورادة
قبل 30 عاماً.
الملكية لمدة أسبوع على مساحة 33 متر مربع إضافة الى
شرفة تكلّف 3.600 دولاراً أميركياً في غير الموسم. أما
شقة مؤلّفة من غرفة واحدة مطلّة على بيت الله، والكعبة،
فتكلّف 93.500 دولاراً أميركياً خلال موسم الحج. وقد سمحت
الحكومة السعودية ببناء الأبراج من أجل إستيعاب الشعبية
المتزايدة لمكة المكرمة باعتبارها محطة إستقبال طيلة السنة.
فهناك حوالي 4 ملايين إنساناً يحج بيت الله الحرام و3
ملايين زائراً خلال شهر رمضان، ولكن هناك عدد كبير من
المسلمين يزور مكة المكرمة في الاوقات الهادئة خلال السنة.
ولا تعارض الحكومة السعودية توسعة البناء في مكة المكرمة.
بناء زمزم، كأحد تجسيدات التشويه لروح وشخصية المدينة
المقدسة، هو جزء من مجمّع أبراج البيت، وهو أحد أكبر المشاريع
المعمارية في العالم، وتبلغ مساحة 1.4 مليون متر مربع.
هذا المجمع الذي يبلغ إرتفاعه 480 متراً يشتمل، بالإضافة
الى برج زمزم، على ست أبراج، وكذلك مهبطي طائرات هيلوكبتر
ومركز تجاري بأربعة طوابق. وسيكون المجمع هو أطول بناء
في السعودية، وسيكون بعد استكماله أحد أطول المباني في
العالم.
وبحسب غرفة التجارة والصناعة بالرياض، لقد أصبحت مكة
حدثاً عقارياً ساخناً. فالإستثمار خلال العقود الثلاثة
الأخيرة بلغت ما يربو على مائة مليار دولار، وأن سعر المتر
مربع من الأرض في مكة يصل الى نحو 50 ألف دولار، أي أغلى
بكثير من مانهاتان في نيويورك وماي فاير في لندن
طلال محمود مالك هو مدير تنفيذي لمكتب ألفا العقاري،
والذي يقوم ببيع أسهماً عبارة عن تملّك مدة زمنية لأكثر
من 1240 شقة صغيرة (سويت) للمسلمين في المملكة المتحدة
وأوروبا. تقول نشرية المكتب للمشترين المحتملين بأن بإمكانهم
توقّع معدل عائد إيجاز بين 10 الى 15 بالمئة سنوياً. ويقول:
(بإمكانك أن ترى ذلك على أنه إستثماري مالي وسيكون هناك
(كاوبويز) مهتمين بتحقيق ربح سريع. ولكن أكثر الناس ينظر
إليه على أنه إستثمار روحي. وهناك تحديث هائل وبرنامج
إعاد تأهيل في مكة، ولكن لن يكون غير المسلمين مهتمين
بالإستثمار هنا. ليس بإمكانك عمل أي شيء سوى أن تصلي وإذا
كنت غير مسلم فليس بإمكانك أن تدخل الى مكة بأي حال).
وقال أيضاً بأن النشاط التجاري كان بطيئاً الى حد ما
في البداية بسبب أن مفهوم (السهم الزمني) كان غريباً بالنسبة
للمسلمين، ولكن التجارة تنامت خلال شهر رمضان. وأضاف (لقد
دهشنا بعدد الشبابا الذين يشترون الاسهم الزمنية، ولكن
كانت هناك مبيعات للمسلمين الكبار في السن، الذين يودون
أن يتقاعدوا هناك).
أحد مالكي السهم الزمني، الذي لم يرغب في الكشف عن
إسمه، قال (لدي عائلة كبيرة وإننا نذهب الى مكة مرة كل
عدة سنوات. إنها تمنحني حافزاً على الذهاب بصورة متكررة.
وبإمكاني أن أصنع مالاً من خلال تأجيرها، ولكن بالنسبة
لي إنها ليست لهذا الغرض).
فرص الثراء في مكة المكرمة قد بلغ ذروته، كما يقول
الدكتور علوي، فيما طمست كثير من المواقع التاريخية من
الخارطة. ويقول بأن هناك أقل من 20 موقعاً أثرياً بقي
في مكة يعود تاريخها الى زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم
قبل 1400 عام. ويضيف (إن الأمر المحزن هو أن مكة يضفى
فيها الطابع التجاري على الجانب الروحي الذي ينطمس، ولكنني
لم أسمع شكوى المسلمين).
وفيما ينزع الأمراء الكبار نحو تغيير ملامح وجه المدينة
المقدّسة عبر إقامة مشاريع سكنية لأغراض تجارية على أراض
مصادرة تعود ملكيتها لأسر ضعيفة، فإن الخوف من أن يعود
المسلمون يوماً الى مكة وقد أصبح بيت الله الحرام موقعاً
ضائعاً ومحاصراً بناطحات السحاب والمراكز التجارية بما
يسلبه التأثير الروحي والقيمي الذي أراده الله لعباده.
|