قضية سيئة السمعة
تدمير الآثار الإسلامية في السعودية
إيمان القويفلي
الإعجاز الأساسي في قضية الآثار الإسلامية في السعودية،
أنها قضية سيئة السمعة حيثما أتيتها، من جهة المدافعين
ومن جهات المعارضين الناقمين. سيئة من جهة الآلة المتصلبة
التي لا تدرك حقيقة أخرى حول الآثار إلا كونها مشاريع
شركية قادمة، وسيئ هو النّفَسَ الاسترزاقيّ الذي يؤيّد
هدم ما عمره يفوق الألف عام لصالح بناء فندق عملاق 7 نجوم،
وسيئ أيضا الانتصار للآثار فقط من حيث هي ذات صلة بالتاريخ
الشيعي أو الصوفي وأن هدمها ليسَ إلا حربا سلفية، أو من
حيث إن هدمها جزءٌ من التكريس التام للمشروع التجاري الممول
بالبترودولار، وهذا بالطبع في نظر مسلمين عرب غير نفطيين،
أو من حيث هدمها دلالة على تخلف وجهل المسلمين الأعراب،
بإزاء تحضّر غربي - مسيحي.
سيئة حيثما أتيتها كأنها فتنة، وعلى هذا الأساس لا
تؤتى، ولا تُصرّح بشأنها المصادر الرسمية بمعلوماتٍ مُعتمدة.
ليس إلا أحاديث الأزقة و الصّحف الخارجية، من (القدس العربي)
وحتى (الإندبندنت)، التي لا يمكن الاعتماد على حصيلة قراءتها
من أجل الجزم - على سبيل المثال - بحقيقة ما حدث لبيت
الرسول عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة، وبطبيعة ما
يوجد حاليا فوق البيت.
ليس من الصعب التعاطف قليلا مع الموقف السلفي من الآثار
الإسلامية، بالنظر والاعتبار بحال التديُن ومفهوم الإيمان،
الامَ يؤول عادة في الأجزاء الأكثر تخلفا من العالم. كيف
أن المؤمنين تحت ضغط الفقر واليأس والآلام يجنحون إلى
الدروشة وإلى الاستغراق في الغيبيات التي يُمثل الأثر
المادّي، المَرقد أو المعبد أو القبة أو النهر أو البيت،
مركزا لطقوسها المُستنزفة ذواتهم وقدراتهم، بعيدا عمّا
هو عملي وعقلاني وذو صلة مباشرة بالواقع. حتى وإن لم تكن
العقلانية جزءا من الحجة السلفية الأساسية في هذا الموضوع،
من الممكن التحفظ معها على تعظيم شأن الأثر المادّي، على
أساس عقلاني.
لكن، وعلى نفس الأساس العقلاني، يجدر التحفظ على طمس
هذه الآثار وتخريبها كلية، لا على أساس أنها حرب طائفية
أو طبقية أو نفطية أو مناطقية أو أي أساس آخر من أسس حماية
الآثار، الأسس سيئة السمعة.
وهي أولا، ليست قضية الآثار الإسلامية فقط. ربما هدم
أو إهمال الآثار الإسلامية هوَ الأشهر بحكم وجود مسلمين
خارج البلاد تعنيهم هذه الآثار فيتحدثون عنها وتشتهر على
نطاقٍ واسع، لكن القضية هيَ قضية الآثار عموما في شبه
الجزيرة العربية. وهي في مستوى آخر، قضية العلاقة بالتاريخ
في حاضر الدولة السعودية.
مثلما أن الرواية المدرسية الحالية للتاريخ تنطلق من
عهد الرسول وتنتهي في الوقت الحاضر، محددة مفهوم التاريخ
بحدود الإسلام وشبه الجزيرة، يحدث ذات الحصار التاريخي
لجغرافيا الآثار في شبه الجزيرة. ويتعاضد هذان معا على
قصف العُمق التاريخي لوجود إنسان شبه الجزيرة وتطور حياته.
وإذا كانت الآثار الإسلامية وجدت من ينتصر لها لهذا السبب
أو ذاك، فإن ما بقي من آثار متفرقة في البلاد لا نصير
له، وهي في حقيقتها آثار أسلافنا في محاولة العيش على
هذه الأرض. لذا لا نصير لها ما لم ننتصر نحن لها، أو ما
لم يأتِ حظها الجيّد بباحث مُستقل مُتيم بآثار شبه الجزيرة،
أوروبي عادة، يدرك ويطلع - للأسف - على ما لا ندركه ولم
نطلع عليه نحن.
بهذه الطريقة فقط - مجددا للأسف - وُجدت أفضل التدوينات
المبكرة حول البقاع في وسط وشرق وشمال وجنوب شبه الجزيرة،
وعن القصص والوقائع المرتبطة بها، وعن القِلاع والآبار
والمستوطنات في وسط الصحراء، ورُسِمَت أفضل النسخ للنقوش
والرسوم الموجودة على الأحجار. الأحجار الملقاة في الرمال،
التي لا تعني أحدا، ولا قداسة لها، ولن يعبدها أحد، لكنها
تستحق أن يُضحي رحالة فرنسي بحياته من أجل إرسال واحد
منها إلى اللوفر في باريس، يوضع في واجهة زجاجية ويُكتب
إلى جواره: (هذا حجر تيماء، يعود إلى القرن الخامس قبل
الميلاد، والكتابة الظاهرة عليه باللغة الآرامية، وقد
عُثر عليه في تيماء، غرب شبه الجزيرة العربية ـ المملكة
العربية السعودية الآن).
ما هي الآرامية؟ من هم الأنباط؟ ما النقش الثمودي؟
كم عمر تاروت؟ لا أعرف. ليست لديّ أية فكرة. وأيضا ليست
لدى أيّ سعودي نجيب تلقى المناولة الرسمية المُعتمدة للتاريخ.
وأمام المفاخرة البابلية أو الفرعونية أو الحِميَرية أو
الفينيقية التي حولنا، بـ (الحضارة العريقة) وبالعمق التاريخي
وبالإنسان المتحضّر حفيد الأجداد المتحضرين، والغمزات
التقليدية حول الحضارة الطارئة التي صنعها النفط من خامة
البداوة الخالصة، فإننا، أنا وأنت وهو، ننكس الرأس ولا
نجد ما نقول. لأننا بالفعل في ظل هذا التجهيل التاريخي
لا نشعر إلا أننا طارئون ولا امتداد لنا.
هل ثمة مجال لأن نعبد الأنباط أو نتلو صلواتنا بالآرامية
أو نحجّ إلى تاروت؟ لا مجال. لكنّ الطمس والإهمال والنسيان
يبقى هو القاعدة. مساويا في هذا بين الآثار الإسلامية
وغير الإسلامية. مُعيدا تجربة الحياة الإنسانية في شبه
الجزيرة إلى الصفر التاريخي، كأنه لا سلف ولا سابقة ولا
امتداد لها. كأن رمل هذه الصحراء سيلفظنا عما قليل. عاجزين
عن الارتباط حقا بما هوَ قديم. عاجزين عن الاطمئنان حقا
إلى ما هو قديم. نازحين من صحرائنا إلى الهجرة. من القرية
إلى المدينة الهامشية. من المدينة الهامشية إلى المدن
المركزية المتضخمة. نازحين داخل المدينة ذاتها من الأحياء
الأقدم والأعرق إلى الأحدث والأجَدّ. كأننا نخاف أن تنهار
بنا الأرض لو بقينا عليها وقتا أطول بعد. كأننا بحاجة
إلى الاحتماء أبدا بما بُني للتو. الآن وللتو.
هل ثمة مجال أن تتركوا لنا جذرا نعود إليه قبل أن تقتلعنا
الريح والنزوح؟
عن: الوطن، 1/2/2007
|