أبواب المسجد الحرام
عدنان الشريف
الباب، جمعه أبواب وبيبان وأبوبة، وبه يعرف كتلة المدخل
بعناصره المعمارية في المنشآت بأنواعها، كأسوار المدن
والعمائر من مساجد وقلاع وبيوت وغيرها. وتعرف به الفتحات
الرابطة بين الأجزاء الداخلية للمنشآت، وفتحات الخزائن
وما شابه ذلك. وبهذا اللفظ تعرف درف الأبواب بـ (مصراع)
أو إثنين.
أطلق اللفظ قبل إنشاء المسجد الحرام على المداخل الواقعة
في نهايات الطرق المؤدية لفناء الكعبة، فكان إذا قدم الأعراب
في الجاهلية الى مكة المكرمة للطواف بالبيت، لزمهم خلع
ثيابهم عند أبواب المسجد ليطوفوا في ثياب تعطى لهم من
المكيين، فإن لم يعطوا طافوا بالبيت عراة بدون ثياب.
وتذكر المصادر التاريخية، في حادثة بناء قريش للكعبة
المشرفة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم اختلفوا
حول من يكون له شرف إعادة الحجر الأسود الى مكانه، وأرادوا
أن يقتتلوا، ثم تداعوا الى السلم واتفقوا أن يحتكموا الى
أول من يدخل عليهم من باب المسجد، ويقصد بباب المسجد باب
بني عبد شمس آنذاك، وعرف بـ (باب بني شيبة) و (الباب الأعظم)،
وذلك بالرغم من أنه وغيره من الأبواب لم يكن لها هيئة
معمارية واضحة، فعرفت مداخلها بالفجاج.
في عصر النبوة استمرت أبواب الحرم المكي الشريف على
صفتها التي كانت عليها في العصر الجاهلي. ويرد ذكر أسماء
بعض هذه الأبواب في نصوص تعود لتلك الفترة. ففي أحداث
فتح مكة سنة 8هـ/ 629م، اندفع ابن الزبير حتى وقف بالراية
بباب المسجد ثم دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد،
وطاف بالكعبة المشرفة، فلما فرغ خرج من باب بني مخزوم
الى الصفا. وفي حجة الوداع دخل الرسول صلى الله عليه وسلم
المسجد الحرام من باب بني شيبة، ولما رأى الكعبة المشرفة
وقف عنده ورفع يديه بالدعاء. ويرد ضمن أحداث السيرة النبوية
الشريفة ذكر لثلاثة أبواب أُخر هي: باب بني جمح، وبني
سهم، والحناطين (الخياطين).
يقدر بعض الباحثين عدد أبواب المسجد الحرام في تلك
الفترة بسبعة أبواب: إثنان في الجهة الشرقية، وثلاثة غربية،
وواحد في كل من الشمال والجنوب. وقد اكتسب بعضها في عهد
النبي صلى الله عليه وسلم صفة خاصة لارتباطه بالنسك.
في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه،
أضحى للأبواب هيئة معمارية محددة، بعد ما أمر رضي الله
عنه سنة 17هـ/ 638م بإحاطة المطاف بجدار قصير يبلغ ارتفاعه
دون القامة، فُتح فيه أبواب في محاذاة الأبواب التي كان
من قبل بين الدور.
وشهدت أبواب الحرم المكي الشريف تطوراً معمارياً مهماً
في عمارة الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه للمسجد
الحرام سنة 26هـ/ 646م، حيث زيدت مساحته، وأُضيفت إليه
الأروقة، فاقتضى بدوره أن يبني للمسجد الحرام أبواباً
يتوافر لها عضادتان وعلو مسقوف.
بعد عصر الخلفاء الراشدين شهد المسجد الحرام أكثر من
عمارة. أولها عمارة عبدالله بن الزبير سنة 65هـ/ 684م.
وقد جرى فيها زيادة كبيرة في مساحة المسجد الحرام، ترتب
عنها بناء أبواب جديدة بدلاً من الأبواب القديمة. وقد
ذكرت المصادر هذه الأبواب الجديدة في حادثة حصار الجيش
الأموي لابن الزبير وأنصاره في المسجد الحرام، حيث وكل
قائد ذلك الجيش الحجاج بن يوسف الثقفي لكل طائفة من جنده
باباً من تلك الأبواب. فكان لجند حمص الباب الذي يواجه
الكعبة المشرفة، ولجند دمشق باب بني شيبة، ولجند الأردن
باب الصفا، ولجند فلسطين باب بني جمح، ولجند قسرين باب
بني سهم. ويلاحظ أنه ضمن هذا السرد لم يرد ذكر لباب الحناطين
(الخياطين) بسبب مجاورته لباب بني جمح على ما يبدو، أو
أنه أُلغي في تلك التوسعة، كما لم يرد ذكر لباب الندوة
لأنه يؤدي إليها.
الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان قام في سنة 72هـ/
694م بتجديد عمارة المسجد الحرام، وارتبط بذلك تجديد عمارة
أبوابه بطبيعة الحال. كما قام ابنه الوليد بإعادة عمارته
سنة 90هـ/ 709م، فرفع جدرانه وزخرفها من الداخل، وربما
أصاب الأبواب شيء من الزخرفة كذلك.
في العصر العباسي شهد المسجد الحرام توسعات عدة، ترتب
عنها زيادة كبيرة في مساحته، واستقر على اثرها مخطط المسجد
الحرام حتى نهاية العصر العثماني وأوائل العصر السعودي.
كما أن عدد الأبواب شهد في هذه التوسعات زيادة كبيرة حتى
بلغت في بعض الفترات ثلاثة وعشرين باباً.
أولى التوسعات العباسية للمسجد الحرام كانت توسعة الخليفة
أبي جعفر المنصور سنة 137هـ/ 754م، وشملت الضلع الغربي
وبعض الشمالي (الشامي).
أما التوسعة الثانية فكانت لابنه الخليفة المهدي، وكانت
على مرحلتين: الأولى سنة 161هـ/ 777م، وشملت تعديل الإزورار
في الضلع الشمالي وتوسعة الضلع الشرقي ناحية المسعى. أما
المرحلة الثانية سنة 164هـ/ 780م، فقد اقتصرت على توسعة
الضلع الجنوبي لجعل الكعبة تتوسط صحن المسجد.
ثالثة هذه التوسعات كانت توسعة دار الندوة بأمر الخليفة
المعتضد بالله العباسي، وكانت ما بين سنتي 281 ـ 284هـ/
894 ـ 897م، وضمت فيها دار الندوة (الإمارة) الى عمارة
المسجد الحرام.
الخليفة المقتدر بالله العباسي اختتم الزيادات العباسية
للمسجد الحرام سنة 306هـ وقيل سنة 307هـ/ 918-919م، بضم
مساحة كانت تقع بين دارين للسيدة زبيدة، عرفت بزيادة باب
إبراهيم، نسبة الى باب يتصدر هذه الزيادة.
ترتب على هذه الزيادات أن تعرضت أبواب المسجد الحرام
لتغيرات في أعدادها ومواقعها. ويمكن وصف هذه التغيرات
على النحو التالي:
|
موضع باب بني شيبة وهو أحد
أبواب الحرم المكي الشريف، عن محمد حلمي 1947م
|
أبواب الجدار الشمالي (الشامي):
أُنشيء في هذا الجدار عدد من الأبواب أولها من الشرق
(باب دار شيبة) بن عثمان. يليه الى الغرب منه (باب دار
الندوة) لأنه ينفذ إليها. وقد أُزيل هذا الباب بعد توسعة
دار الندوة، حيث حل محله ثلاثة ابواب جديدة تربط بين الزيادة
والطرق المحيطة بها، فهناك باب يقع في صدر الزيادة على
الطريق المؤدي الى سويقة، ويقع الباب الثاني أعلى الطريق
غربي الزيادة. يليه باب ثالث أسفل منه ذكره الخزاعي في
ذيله على الأزرقي، وقد أُغلق بعد عصره إذ ان المصادر بعد
ذلك لا تشير إليه على الإطلاق.
يلي ذلك (باب دار حجير بن أبي إهاب)، وهو باب انقطع
ذكره في المصادر بعد القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي.
ومن بعده (بابا دار العجلة) حيث يقعان في مواجهتها وقد
سدّ الغربي منهما.
(باب دار عمرو بن العاص) هو آخر ابواب الضلع الشمالي
الشامي، حيث يقع في النهاية الغربية لهذا الضلع.
أبواب الجدار الشرقي:
انتظمت أبواب الجدار الشرقي في زيادة المهدي، وبلغ
عددها خمسة ابواب تطل على المسعى، فتبدأ من الشمال بباب
بني شيبة الكبير (دار السلام) يليه الى الجنوب (باب دار
القوارير) ثم (باب النبي صلى الله عليه وسلم) و (باب العباس
بن عبد المطلب) وآخرها (باب بني هاشم) أو باب سوق الليل.
أبواب الجدار الجنوبي (اليماني):
شيد في هذا الجدار سبعة أبواب، تبدأ من الشرق بـ (باب
بني عائذ) يليه (باب بني سفيان بن عبد الأسد) ثم (باب
بني مخزوم) باب الصفا، وبابان آخران متتاليان عرفا بـ
(بابي بني مخزوم) أيضاً، ومن بعدهما (باب بني تيم بن مرة)،
و (باب أم هاني).
أبواب الجدار الغربي:
تبدأ أبواب هذا الجدار من الشمال بباب بني سهم (باب
العمرة) ثم باب دار زبيدة، وباب أبي البختري بن هاشم الأسدي،
وباب بني جمح، وباب الحناطين (الخياطين)، وآخر هذه الأبواب
باب الحزامية. وقد أزيل بابا بني جمح والخياطين وحل محلهما
باب إبراهيم في صدر هذه الزيادة.
الوصف السابق للأبواب يمثل واقعها في مطلع القرن الرابع
الهجري/ العاشر الميلادي، وقد استقر وضعها على هذه الصورة
قروناً عدة، وما طرأ عليها من تغيرات خلال تلك القرون
لا يعدو عن كونها ترميمات أو تجديدات لبعض هذه الأبواب
أو إضافة أبواب ثانوية جديدة.
بالنسبة للترميمات، فبعضها كانت لمجمل الأبواب مجتمعة،
كما حدث في سنة 728هـ/ 1327م عندما جدّد هلال الدولة سطح
المسجد الحرام وأبوابه. وفي سنة 873هـ/ 1468م، قام السلطان
قايتباي المملوكي بإصلاح ما خرب من المسجد الحرام، فأصلح
ما في سطح المسجد من المخرب بالخشب والحصى، وبيّض داخل
المسجد وأبوابه والقبب الثلاث، ومقام الأئمة الأربعة،
ورخّم الحجر وشيئاً من جهة جدار زمزم. وفي مطلع العصر
العثماني 959هـ/ 1551م تم ترميم جميع أبواب المسجد الحرام.
واستمرت أعمال الترميم تتوالى حتى العصر الحديث. وخلال
تلك العصور كانت تجري إعادة عمارة بعض أبواب المسجد الحرام.
فنتيجة لخراب أجزاء كبيرة من باب النبي صلى الله عليه
وسلم، أُعيد بناؤه من جديد، وجعل له بين مدخليه بترة كبيرة.
وبسبب هذه العمارة كتب في لوح من رخام، أن ذلك عمّر في
سنة 825هـ/ 1421م بأمر صاحب مصر الملك الأشرف برسباي على
يد الأمير زين الدين مقبل القديدي.
ومن الأبواب التي أعيد عمارتها في العصر المملوكي،
باب إبراهيم، حيث أمر السلطان قانصوه الغوري في سنة 915هـ/
1509م بإعادة بناء هذا الباب وجعله أكثر قوة وارتفاعاً
عما كان عليه في السابق، ليحتمل فوقه قصراً أمر ببنائه
السلطان المذكور.
العصر العثماني شهد إعادة بناء معظم أبواب المسجد الحرام،
وبخاصة في عمارة السلطان سليمان الثاني والتي استكملت
في عهد ابنه السلطان محمد خان سنة 984هـ/ 1576م، وقد ترتب
عنها إعادة بناء معظم أبواب المسجد الحرام، وهي أبواب:
العباس، وعلي، وبازان، والبغلة، والصفا، وجياد الصغير،
والمجاهدية، ومدرسة الشريف عجلان، وأم هاني، والعمرة،
والسدة، والباسطية، والزيادة.
أما بالنسبة للأبواب التي تمت إضافتها فكانت تؤدي الى
منشآت خاصة، من أبرزها باب المارستان، وكان يربط بين المسجد
الحرام والمارستان الذي أنشأه الخليفة العباسي المستنصر
بالله سنة 621هـ/ 1224م. ومن هذه الأبواب باب المدرسة
السليمانية، والذي كان باباً للمدرسة الكنبايتية، وينفذ
الى المسجد الحرام.
|
باب البغلة أحد أبواب الحرم
المكي الشريف |
إن التطورات التي مرت بها أبواب المسجد الحرام حتى
نهاية العصر العثماني، جعلت أعدادها تختلف باختلاف المراحل
التاريخية. فالأزرقي والفاكهي وابن رستة يذكرون أن عددها
بلغ ثلاثة وعشرين باباً. أما ابن جبير وابن بطوطة فيذكران
أن عددها بلغ تسعة عشر باباً. أما إبراهيم رفعت فيذكر
أن عددها خمسة وعشرون باباً، وأحصاها باسلامة فوجد أن
عددها بلغ ستة وعشرين باباً.
العصر السعودي يعد مرحلة رئيسية في عمارة المسجد الحرام،
حيث شهد بداية هذا العصر اهتماماً كبيراً بترميم أبواب
المسجد الحرام ضمن أعمال الترميم السنوية التي تجري له،
كما شهد المسجد في هذا العصر توسعتين رئيسيتين: الأولى
أمر بها الملك عبد العزيز سنة 1386هـ/ 1947م، وتم الفراغ
منها سنة 1396هـ/ 1976م، والأخرى أمر بها الملك فهد سنة
1409هـ/ 1988م، وتم الفراغ منها سنة 1413هـ/ 1992م.
ترتب على هاتين التوسعتين أن أضحى للمسجد الحرام أربعة
ابواب رئيسة، وستون باباً يدخل منها مباشرة، بالإضافة
الى أبواب السلالم والأقبية والمشايات، ليصل مجموع ذلك
الى مائة وستة وعشرين باباً.
ارتبط المسجد الحرام بنسيج المجتمع المكي وكانت أبوابه
جزءًا رئيساً من هذه العلاقة، فكان لهذه الأبواب نصيب
وافر من الأحداث والفتن التي شهدتها مكة المكرمة، ومن
ذلك حادثة تزاحم عند باب العمر في اليوم الرابع عشر من
شهر ذي الحجة سنة 677هـ/ 1278م، نتج عنه وفاة أعداد كبيرة
من الناس، اختلفت الروايات في عددهم، فقيل إثنان وثلاثون،
ويقال أربعة وثلاثون، ويقال ستة وثلاثون، ويقال خمسة وأربعون،
ويقال ثمانية وأربعون وقيل إثنان وخمسون ويقال خمسة وسبعون،
وقيل سبعة وسبعون، ويقال نحو الثمانين، ووجد في موضع منفرد
إثنا عشر ميتاً لم يدفنهم أحد الى آخر النهار، أما من
نقل الى منزله وفيه الروح ومات عند أهله فكثير جداً، وبقي
منهم أقوام بحشاشة الروح الى أن مات بعيداً عن الناس،
ومنهم من حمل في أول الأمر قبل أن يأتي أعوان أمير مكة،
وقال بعض من خرج من تحت الموتى، عددت خمسين ميتاً إلا
إثنين، وتعجب أهل مكة من تلك الواقعة.
كانت أبواب المسجد الحرام شاهداً على الكثير من الصراعات
والحروب التي شهدتها المدينة وحدث الإقتتال عند بعضها،
كما كانت تغلق كلها أو بعضها عندما يتحصن بعض المحاربين
بالمسجد الحرام أو بمبان مجاورة له.
وارتبطت أبواب المسجد الحرام ببعض عادات المكيين وتقاليدهم،
فإذا حفظ أحد ابناء علية القوم القرآن الكريم كان يُحتفى
به ويُزف من أحد ابواب المسجد، وكذلك كان يُفعل بهم إذا
ختنوا. وكان من عادة القوم في ذلك الوقت الإحتفال بالمولد
النبوي الشريف، وله مراسيم وتقاليد تبدأ من باب المسجد
الحرام المعروف بباب علي وصولاً الى مكان مولده صلى الله
عليه وسلم. وكذلك يحتفون بمناسبات الزواج؛ فإذا كان العريس
من اهل الحظوة والمكانة المرموقة فإنه يزف من أحد هذه
الأبواب، كما حدث في سنة 924هـ/ 1518م حيث زف القاضي تاج
الدين الشافعي زفة الغمرة من باب السدة (عمرو بن العاص)
وأسرج له المفرعات وشمع المسجد الحرام وغيره، ومشى أمامه
اقاربه ومن يلوذ به وبعض النسوة من الأتباع.
وارتبط الدخول والخروج من المسجد الحرام في مناسبات
معينة ببعض أبوابه، فالخلفاء كانوا يدخلون الى المسجد
من باب السلام وكذلك الأعيان، وكان الموكب الحامل لمراسم
التعيين أو التجديد لأمير مكة المكرمة يدخل من هذا الباب،
وفق مراسم ثابتة لا تتغير، سمّاها السنجاري بالقانون المعتاد.
وكذلك الحجاج والمعتمرون يدخلون الى المسجد الحرام من
هذا الباب، اقتداءاً بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي
دخل منه في أكثر من مناسبة.
أما بالنسبة للخروج من المسجد الحرام فقد كان للأمر
ترتيبات في مناسبات معينة، فالحجاج والمعتمرون كانوا يخرجون
من باب الصفا للذهاب الى المسعى، ومن كان من الأمراء والأعيان
يرغب في السعي راكباً، يربط دوابه بجوار باب الصفا.
خلال معظم العصر المملوكي كان من يلبس الخلع من الأشراف
والقضاة يبدأ موكبه من باب الصفا، ففي سنة 827هـ/ 1423م
لبس علي بن عنان خلعة إمارة مكة في المسجد الحرام وركب
من باب الصفا ودار البلد بالخلعة. وعندما ولي شيخ السدنة
محمد بن علي الشيبي القضاء ونظر المسجد الحرام، والشيخ
أبو البركات بن الزين قضاء المالكية في مكة المكرمة، سنة
827هـ/ 1423م كان لكل منهما موكب خاص يبدأ مسيرته من باب
الصفا.
والخروج من باب الصفا اقتداءاً بالرسول صلى الله عليه
وسلم الذي خرج من ناحيته للمسعى في مسار محدد معروف، ذكره
الفاكهي نقلاً عن أهل مكة المكرمة. ومنذ أواخر العصر المملوكي
لم يعد خروج موكب الشريف بعد قراءة مراسيم التجديد والتعيين
مقيداً بباب الصفا، وإنما أضحى من الممكن أن ينطلق الموكب
من أبواب أخرى في المسجد الحرام. ففي سنة 921هـ/ 1515م
لبس شريف مكة خلعة الإمارة وخرج من باب أم هاني متوجهاً
بموكبه الى بيته. كما لبسها شريف مكة سنة 1105هـ/ 1693م
وانطلق موكبه من باب السلام.
أما إذا أراد شريف مكة أو أحد أعيانها مغادرة مكة المكرمة،
فإنه يطوف بالبيت مودعاً ويخرج من باب الحزورة، ويعلل
جار الله بن فهد عادة الخروج من هذا الباب بأنه يتمناً
بما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم. ويقصد بذلك عندما
هاجر عليه السلام الى المدينة المنورة فإنه خرج من ناحية
الحزورة.
وقد تكتب المراسيم المهمة التي تصدرها الدولة وتتعلق
بمكة المكرمة على مواضع في المسجد الحرام بالقرب من الأبواب
الرئيسية حتى يشاهدها الداخل والخارج. ففي سنة 824هـ/
1421م أمر السلطان المملوكي الظاهر ططر (تتر) بإسقاط المكس
عن المأكولات في مكة المكرمة، وكتب بذلك نقش على أعمدة
بالمسجد الحرام ناحية باب السلام وباب الصفا.
|
باب الصفا، أحد أبواب الحرم
المكي الشريف |
المصادر التاريخية تذكر بأن الجنائز كانت تخرج من أكثر
من باب في الجدار الشرقي للمسجد الحرام. فهناك باب السلام
الذي كانت تخرج منه معظم الجنائز في العصر المملوكي والعثماني
ومطلع السعودي. وكان يصلى على الجنائز عند باب النبي صلى
الله عليه وسلم وباب العباس رضي الله عنه، ولذلك كانت
تخرج منهما بعض الجنائز أيضاً حسبما تشير بذلك بعض النصوص
التاريخية، كما أنهما عرفا بباب الجنائز أيضاً خلال العصر
المملوكي.
العصر المملوكي شهد ارتباط النظام القضائي في مكة المكرمة
بأبواب المسجد الحرام، حيث أُنشيء للقضاة دكاك عند بعض
هذه الأبواب يجلسون عليها يؤدون وظائفهم. ففي سنة 845هـ/
1441م أنشأ الأمير سودون المحمدي دكّة في الجانب الأيمن
من باب البغلة، يجلس عليها قاضي مكة أبو اليمن النويري،
وكان للقاضي الشافعي بمكة المكرمة دكة بباب السلام في
مطلع القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي. ويظهر
أنه كان عند هذا الباب دكة أو أكثر يجلس عليها شهود القضاء.
لم يكن لأبواب المسجد الحرام تنظيم معين خلال القرون
الثلاثة الهجرية الأولى، إذ لا يرد ذكر للبوابين في مصادر
تلك الفترة كما أن معظم الأبواب كانت مفتوحة الدوام، ولم
يكن لها مصاريع تغلقها. فالأزرقي والفاكهي وابن رستة يذكرون
أن الأبواب المبوبة ذات المصاريع من أبواب المسجد الحرام
كانا بابين فقط، وقد بوّبا لأنهما خصصا لدارين هما: دار
أبي البختري ودار زبيدة.
وأقدم نص ذكرته المصادر التاريخية يشير الى وجود مصاريع
خشبية على أبواب رئيسة في المسجد الحرام يعود للعصر الأيوبي،
وتحديداً أواخر القرن السادس الهجري/ العاشر الميلادي،
في سنة 593هـ/ 1196م عندما جاء سيل وأخذ فرضتي باب ابراهيم،
والفرضة هي الخشبة التي تدور فيها رجل المصراع، ما يشير
الى وجود مصاريع خشبية لبقية أبواب المسجد الحرام، فلا
يعقل أن تركب المصاريع على أبواب دون أخرى، وهو ما تؤكده
بعض حوادث العصر المملوكي التي تشير الى وجود المصاريع
الخشبية على أبواب المسجد الحرام.
فوجود المصاريع على الأبواب يقتضي أن يكون لها بوابون
يتولون فتحها وإغلاقها، والتحكم في طرق الإستفادة منها
بالنسبة للداخلين والخارجين. ومثل ذلك لا يظهر بوضوح في
المصادر إلا منذ العصر المملوكي. إذ يرد ذكر لمرتبات وصدقات
خصصت لبوابي المسجد الحرام، كما أن الدولة أصدرت قرارات
تهدف الى ضبط أوضاع البوابين، نظراً لعدم التزامهم بالبقاء
في أماكن عملهم عند الأبواب.
ففي سنة 803هـ/ 1400م، أمر الأمير بيسق الشيخي أمير
الركب الأول لسنة 803هـ/ 1400م بوابي المسجد الحرام بملازمة
أبوابه ليلاً ونهاراً وعدم التغيب. كذلك صدر أمر السلطان
برسباي في سنة 830هـ/ 1426م بتعيين بوابين جدد للمسجد
الحرام، وأمروا بملازمة أبواب المسجد ليلاً ونهاراً، وأن
لا يغيبوا عنها إلا لضرورة. ومن الواضح أن سبب تغيب البوابين
السابقين الذين حل محلهم البوابون الجدد، هو أنهم كانوا
من القضاة والفقهاء، وكانوا ينشغلون بالتعلم والتعليم
أو بوظائف أخرى. ولذلك صدر الأمر المذكور باستبدالهم وتعيين
بوابين جدد ليس لهم حرفة ولا صناعة ولا شغل، فقراء مساكين،
ليكونوا متفرغين لهذه الوظيفة.
وكان يُمنع استخدام أبواب المسجد الحرام للمرور وحمل
الأمتعة من مكان الى مكان، وعلى الأخص الجواري اللاتي
يحملن الماء الى بيوت أسيادهن، كما منعت الدواب والكلاب
من الدخول من هذه الأبواب. بيد أن عدم التزام البوابين
بالبقاء عند أبواب المسجد الحرام حال دون تحقيق ذلك، فاستبدلهم
السلطان برسباي كما سبق ذكره.
إن الإجراءات التي اتخذها السلطان برسباي لضمان تنظيم
أوضاع الدخول والمرور في المسجد الحرام لم يكتب لها الديمومة
والبقاء، حيث طلب الأمير مصلح الدين الرومي في سنة 923هـ/
1517م من البوابين قفل الأبواب ليلاً حتى لا تدخل الكلاب
المسجد الحرام. وفي سنة 933هـ/ 1526م أمر أحد الشيوخ من
ذوي المكانة في مكة المكرمة، وهو الشيخ محمد عراق، الناس
باحترام المسجد وعدم المرور منه بالحوائج والأمتعة كما
أمرهم بلبس نعالهم خارج أبواب المسجد حفاظاً على نظافته.
عدم وجود المصاريع على الأبواب في العمارات الأولى
للمسجد الحرام يدل على أنها كانت مفتوحة على الدوام، كما
ان تركيب المصاريع الخشبية أواخر القرن السادس الهجري/
الثاني عشر الميلادي لا يدل على أنها كانت تغلق في وقت
من الأوقات. ولذلك حاول السلطان برسباي وضع نظام لغلق
وفتح هذه الأبواب، فأمر في سنة 830هـ/ 1426م بأن تسد أبواب
المسجد الحرام بعد انقضاء الموسم، بما في ذلك الأبواب
الشارعة من المنازل الى سطح المسجد، ويستثنى منها أربعة
أبواب فقط وهي: السلام والعمرة وإبراهيم والصفا. فتضرر
سكان مكة بخاصة المتعبدون، فروجع السلطان فأمر بفتح بابين
آخرين وهما الزيادة والجنائز. ثم جاء مرسوم سلطاني صحبة
ركب الحج المصري بإعادة فتح الأبواب جميعها، مع وضع ضوابط
للبوابين وللمرور من المسجد الحرام.
|
مسطح المسجد الحرام، رسم محمد صادق باشا عام 1880م، وتظهر فيه أبواب الحرم
|
بيد أن عدم التزام الناس بهذه الضوابط، حدا بالأمير
مصلح الدين الرومي بالأمر بإغلاقها ليلاً. ويظهر أن هذا
الإجراء ظل متبعاً حتى زمن المؤرخ حسين باسلامة، حيث يذكر
أنه كان ببعض أبواب المسجد الحرام خوخ لأجل الدخول منها
ليلاً. وما يذكره باسلامة يشير الى أن إغلاق أبواب المسجد
الحرام لم يحل دون دخول الراغبين إليه ليلاً حيث تفتح
لهم خوخ في بعض أبوابه الرئيسة.
عبر التاريخ الطويل لأبواب المسجد الحرام، حمل بعضها
أكثر من تسمية.. كل منها يمثل فترة تاريخية معينة، وقد
يحمل الباب الواحد أكثر من تسمية في فترة تاريخية واحدة.
فباب السلام ذكره الأزرقي بأسماء عدة منها: باب بني عبد
شمس، وباب بني شيبة الكبير، والباب الأعظم. وكذلك الحال
في باب أم هاني، فالفاسي ذكر له أيضاً إسمين آخرين هما:
الملاعبة والفرج. أما باب الحزورة فقد أطلق عليه الأزرقي
أربعة أسماء هي: باب بني حكيم بن حزام، وباب بني الزبير
بن العوام، وباب البقالين، وباب الحزامية.
ولا يرد ذكر لأسماء الأبواب في الكتابات التذكارية
التي دونت على بعضها، وتضمنت ذكراً لأعمال الإنشاء والتجديد
والترميم، إذ يرد فقط ذكر عبارة الباب الشريف، أو الباب
المعظم. ويستثنى من ذلك باب النبي صلى الله عليه وسلم،
والذي ذكر اسمه في كتابة تذكارية عليه، تؤرخ لتجديد عمارة
السلطان برسباي لهذا الباب سنة 825هـ/ 1421م.
إن إطلاق تسمية معينة على الباب في غالب الأحوال يكون
مشتقاً مما يواجهه من أماكن كالدور أو الأحياء السكنية
وغير ذلك، فأبواب بني مخزوم عرفت بذلك لأنها تقابل دورهم،
كما أن بابي العجلة عرفا بذلك لأنهما يقعان أمامها. وقد
يحمل الباب تسمية لوظيفة معينة يقوم بها، مثل باب الصفا
والذي عرف بهذا الإسم لان الحجاج والمعتمرين يخرجون منه
الى الصفا، وكذلك حال باب العمرة فإنه مدخل ومخرج المعتمرين
من التنعيم.
وقد يكون لتسمية الباب دلالة رمزية، فباب السلام يرمز
الى دعاء الدخول الى المسجد الحرام، حيث ورد أن من الأدعية
المستحبة في حال دخول الحاج أو المعتمر من هذا الباب أن
يقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام).
وكان هذا الدعاء الشائع عند الحجاج والمعتمرين ذكره بعض
الرحالة في رحلاتهم الى مكة المكرمة. فحمل الباب اسمه
من الدعاء الذي يقال عنده، كما أن في ذلك دلالة رمزية
لما يمثله الإحساس بالسلام والامان من يدخل هذا المكان
المقدس المبارك.
وعلى الوتيرة نفسها حمل باب النبي صلى الله عليه وسلم
اسمه حيث يرمز الى دخول النبي صلى الله عليه وسلم الى
الحرم وخروجه منه من هذه الناحية.
وحملت بعض الأبواب أسماء بعض الأعيان أو الأشخاص، ومن
أبرز الأدلة على ذلك باب إبراهيم، حيث تذكر المصادر أنه
ينسب الى خياط يدعى إبراهيم كان يعمل امام هذا الباب وليس
نبي الله إبراهيم عليه السلام كما كان يعتقد بعض العوام.
وفي العصر الحديث أطلقت أسماء بعض الملوك من آل سعود على
بعض الأبواب الرئيسة في المسجد الحرام مثل: باب الملك
عبدالعزيز وباب الملك فهد، لتشير الى انجازاتهم في عمارة
المسجد والعناية به.
لا توفر المصادر التاريخية أية معطيات عن عمارة أبواب
المسجد الحرام قبل العصر العباسي، وإن كان من الواضح أنه
كان لها هيئة معمارية، وربما حظيت ببعض الزخارف.. في حين
أنها في هذا العصر تقدم لنا أوصافاً معمارية في غاية الوضوح،
حيث يلاحظ من خلالها أن الأبواب حظيت بعناية كبيرة في
عمارتها وزخرفتها.
بعض هذه الأبواب كانت متعددة المداخل، فمنها من له
مدخلان، كبابي بني تيم وأم هاني جنوبي المسجد الحرام،
وبابي بني جمح والحزامية غربي المسجد الحرام. ومن هذه
الأبواب ما يكون له ثلاثة مداخل، مثل بابي السلام (بني
شيبة الكبير) والعباس شرقي المسجد الحرام، وباب الخياطين
غربي المسجد الحرام. ووصل عدد المداخل الى خمسة في باب
الصفا جنوبي المسجد الحرام.
أما الأبواب ذات المدخل الواحد فمن أبرزها باب بني
سهم (العمرة) غربي المسجد الحرام. وجميع ابواب الضلع الشمالي
في العصر العباسي الأول.
ويلاحظ أن تعدد المداخل تركز في أبواب الضلع الجنوبي،
وما اقترب منه من أبواب في الضلعين الشرقي والغربي، ولا
يستثنى من ذلك سوى باب السلام الذي يقع شمالي الضلع الشرقي
لما له من أهمية خاصة كما سبق. وسبب هذا التكوين المعماري
يرتبط بحركة دخول الحجاج وخروجهم من المسجد، إذ أن هذه
الأبواب تطل على الوادي والمسعى، وهي المنطقة الرئيسة
لحركة الدخول والخروج من المسجد الحرام.
إن التساوي في عدد المداخل لا يعني بالضرورة أن اتساع
هذه الأبواب كان متساوياً، فباب السلام (ثلاثة مداخل)
كان اتساعه أربعة وعشرين ذراعاً (11.52م) أما باب العباس
(ثلاثة مداخل) فكان اتساعه واحداً وعشرين ذراعاً (10.8م)
وكذلك الحال بالنسبة للأبواب ذات المدخلين والمدخل الواحد،
فقد اختلف اتساع بعضها وتساوى بعضها.
كذلك اختلف مقدار ارتفاع فتحات هذه الأبواب، حيث بلغت
في معظم أبواب الضلع الشمالي عشرة أذرع (4.8م) وفي أبواب
الضلع الجنوبي ثلاثة عشر ذراعاً واثني عشر إصبعاً (6.48م)
وهي أكثر أبواب المسجد الحرام ارتفاعاً. أما أقلها ارتفاعاً
فكان باب بني شيبة الصغير في الركن الشمالي الشرقي من
المسجد، وبلغ ارتفاعه تسعة أذرع (4.42م). إن تباين ارتفاع
أبواب المسجد الحرام تعكس تبايناً في ارتفاع أروقته، كما
تعكس الإختلاف في طبيعة الأرض التي بني عليها المسجد الحرام.
لمداخل هذه الأبواب نهايات علوية معقودة، أطلقت عليها
المصادر لفظ (طيقان) وهو مصطلح يطلق على العقود في مصادر
التراث المعماري الإسلامي. وإذا كان الباب متعدد المداخل،
فيتوسطه اسطوانات ترتكز عليها أرجل العقود، يظهر أنها
من الرخام كمعظم اسطوانات المسجد. وتميزت الأبواب الرئيسة
بزخرفتها، فكان يعلو بعضاً منها روشن من الخشب الساج،
مزخرف ومطلي بالذهب. بينما زخرفت وجوه العقود بالفسيفساء،
وكسي الجداران المحيطان بالباب بالرخام الملون. وتظهر
هذه التفاصيل جلية مع بعض الإختلافات في كل من باب السلام
والعباس والصفا وبني جمح.
|
أبواب المسجد الحرام حسب خريطة المساحة المصرية عام 1952م
|
كان للزيادات والترميمات التي أجريت على المسجد الحرام
اثرها على أبوابه أيضاً. فنتيجة لزيادة دار الندوة سنة
281هـ/ 894م أضيف للضلع الشمالي أبواب جديدة منها باب
في صدر هذه الزيادة له مدخلان وهو الوحيد على هذه الصفة
في أبواب الضلع الشمالي. وترتب عن زيادة باب إبراهيم أن
أضحى في صدر هذه الزيادة باب له مدخل واسع وواجهة مرتفعة.
ويلاحظ أنه عندما زار ابن جبير المسجد الحرام، ذكر بأن
لباب النبي صلى الله عليه وسلم مدخلين، ذلك على خلاف ما
كان عليه زمن الأزرقي والفاكهي اللذين يذكران أن له مدخلاً
واحداً. مما يشير الى أن الباب قد جرت توسعته وإضافة مدخل
آخر إليه، بيد أن المصادر لا تحدد متى تمت هذه التعديلات
ومن أمر وقام بها.
التجديدات والترميمات التي حدثت لبعض أبواب المسجد
الحرام في العصر المملوكي أضافت عليها لمسات من العمارة
المملوكية، حيث استخدمت في عمارتها العقدود المدببة، وزخرفت
بالجفوت والرنوك كحليات معمارية، وهو ما نشاهدة في باب
النبي صلى الله عليه وسلم وباب إبراهيم.
أما العصر العثماني فيعد مرحلة تغيير في عمارة معظم
أبواب المسجد الحرام، نتيجة التجديدات والترميمات التي
شهدها المسجد الحرام طوال هذا العصر. ومن أبرز التعديلات
استخدام الحجر الشمسي الأملس في بناء هذه الأبواب، بالإضافة
الى العقود المدببة والموتورة. علاوة على تنوع الزخرفة،
مثل زخرفة التوريق والجفوت. ومنها ما كسي بالرخام الملون،
وحشيت قمم مداخله بالمقرنصات بالإضافة الى ظهور بعض التأثيرات
الزخرفية الأوروبية على الأبواب التي جرى ترميمها أواخر
العصر العثماني.
وعلى الرغم من استخدام أساليب العمارة الحديثة في العمارة
السعودية للمسجد الحرام، فإن الطابع الإسلامي يظهر واضحاً
في هذه العمارة. ولكل أبواب المسجد الحرام في هذه العمارة
مدخل واحد ما عدا الأربعة الرئيسية، حيث أن لكل منها ثلاثة
مداخل رئيسية ذات نهايات علوية معقودة. وقد ارتكزت هذه
العقود على صف يتكون من أربعة أعمدة، وزودت هذه الأبواب
بمصاريع خشبية ذات درفتين مصنوعة من الخشب الممتاز، وقد
كسي الجزء الأوسط منها والزوايا بقطع معدينة عليها زخارف
إسلامية جميلة.
المصادر المبكرة التي وصفت العمارة العباسية للمسجد
الحرام تذكر بأن لمعظم أبوابه درجاً خاصاً بها، يقع في
مواجهة الخارج من هذه الأبواب. ويستثنى من ذلك باب السلام
وباب دار شيبة ابن عثمان وباب دار حجير بن أبي إهاب، حيث
ذكرت المصادر أن للأول أربعة مراق داخلة في المسجد ينزل
بها إليه، وللثاني والثالث ثمان درجات في بطن المسجد.
كما أن هناك أبواباً بدون درج، حيث سكتت عنها هذه المصادر
ولم تشر لوجود درج لها على الإطلاق.
فإذا انتقل الدارس الى العصر العثماني فإن المصادر
تذكر بأن لمعظم أبواب المسجد الحرام درجاً في مواجهة الداخل
الى المسجد الحرام. ويستثنى من ذلك بابا السلام والدريبة
حين إن الأول أضحى مسامتاً لأرض الرواق، والثاني منخفضاً
عن ارض الرواق بدرجة واحدة. هذا مع وجود درج في مواجهة
الخارج من المسجد لمعظم أبوابه كما هو واضح من خلال خارطة
هيئة المساحة المصرية.
لم تلتفت المصادر التاريخية والبحوث والدراسات عن تاريخ
عمارة المسجد الحرام الى مثل هذه التعديلات في درج المسجد،
والتي تشير الى أنه في المراحل المبكرة، كانت أرضية رواق
المسجد في مستوى عتب الأبواب ما عدا ناحية الزاوية الشمالية
الشرقية للمسجد وما يقرب منها، حيث أن الأبواب هناك (السلام
ودار شيبة وحجير بن إهاب) في مستوى أعلى من مستوى هذه
الأرضية.
ثم طرأ تعديل بعد ذلك في العصر العثماني، فأضحى مستوى
عتب الأبواب أعلى من أرضية الرواق بنسبة متفاوتة، كما
هو واضح من اختلاف عدد درجات بعضها. وكان هذا بسبب اختلاف
مستوى أرضية الرواق كما سبق ذكره.
ومن الواضح أن هذا التغيير الذي طرأ في العصر العثماني
سببه تعديل مستوى عتب أبواب المسجد الحرام، والذي ابتدأ
تنفيذه في العهد المملوكي، حيث يذكر ابن فهد أنه في سنة
830هـ/ 1426م بني درج جديد لأبواب المسجد الحرام، دون
أن يشير الى وجود الدرج القديم. وتكرر الأمر في العصر
العثماني؛ فيذكر السنجاري أنه في سنة 1092هـ/ 1681م زيد
في درج المسجد الحرام من الخارج، دون أن يشير أيضاً الى
الدرج القديم. وفي كلتا الحالتين فإن المؤرخين السابقين
يذكران أن السبب في بناء الدرج الجديد منع ماء السيل من
الدخول الى المسجد الحرام. وهذا يدل كذلك على اختفاء الدرج
القديم، بسبب التراب المتراكم بسبب السيول، والذي غطى
الدرج ودفنه، كما تشير بذلك المصادر التاريخية منذ العصر
العباسي، حيث يذكر الفاكهي أن لباب دار عمرو بن العاص
(العمرة) سبع درجات، دفن تراب السيل أربعاً منها، وبقيت
ثلاث فقط. ويذكر أبو محمد الخزاعي في ذيله على الأزرقي
أنه (لما غرق المسجد وما حوله من المسعى والوادي والطريق،
في سنة إحدى وثمانين ومائتين في خلافة المعتضد بالله،
ظهر من درج الأبواب أكثر مما ذكره الأزرقي. فكان عدد ما
ظهر من درج أبواب الوادي كله من أعلى المسجد الى أسفله
اثنتي عشرة درجة لكل باب).
وترصد المصادر التاريخية هذه الظاهرة أيضاً في العصر
العثماني حيث قطع سيل وادي إبراهيم جنوبي المسجد الحرام
سنة 983هـ/ 1575م فظهر أمام أبوابه عشر درجات كانت مدفونة.
ومن الواضح أن بناء الدرج الجديد كان فوق مستوى الدرج
القديم، ولذلك ارتفع مستوى عتب معظم الأبواب عن المستوى
الذي كانت عليه في السابق، وبالتالي ما كان مسامتاً منها
لمستوى الرواق أضحى أعلى منه، فاقتضى ذلك أن يبني درج
في مواجه الداخل للمسجد حتى يتسنى له الوصول الى الرواق.
ويظهر أن هذا التعديل كانت بدايته سنة 830هـ/ 1426م عندما
أُضيف الدرج الجديد.
وتبقى الإشارة هنا الى ما طرأ من تعديل على درج باب
السلام وباب دار شيبة (الدريبة) فبعد أن كانا يعلوان مستوى
الرواق في العمارة العباسية، أضحى الأول مسامتاً له والآخر
منخفضاً عنه، وقد يكون السبب في ذلك أهمية باب السلام،
لكونه مدخلاً رئيساً للمسجد الحرام، وبالتالي رُفع مستوى
الرواق حتى أضحى مسامتاً له ليسهل على مرتادي المسجد الحرام
الدخول والخروج منه، وإن كانت المصادر لا تقدم أي معطيات
يمكن من خلالها تحديد الزمن الذي حدث فيه هذا التعديل
ومن أمر أو قام بتنفيذه.
|