رحلة الإدريسي الى الحجاز
عبدالهادي التازي
هي رحلة من الرحلات التاريخية الموثقة الى مكة المكرمة
والمدينة المنورة، قام بها أبو عبدالله محمد بن محمد بن
عبدالله بن إدريس الحموي الحسني المعروف بالشريف الإدريسي
(ت 560هـ/ 1165م) الذي زار الحرمين الشريفين حينما كان
في مصر وبلاد الشام، الى جانب رحلاته التي تحدث عنها المهتمون
بحياته. ولا بد أنه اكتسب معرفة بأحوال البلاد وإحاطة
بأهلها، وهذا كان وراء دعوته من قبل روجار الثاني لقاعدة
صقلية. ولعل للظروف الدولية التي صادفت وجوده هناك، أثراً
في إهمال المعلومات التي أوردها عن مكة المكرمة(1)، والتي
خفيت عن سائر الذين تناولوا تاريخ البلد الحرام. والمهم
في هذه المرويات أنها تملأ فراغاً كبيراً مما شعرنا به
في (العقد الثمين) و (شفاء الغرام) و(غاية المرام) وما
كان يتبع هذه التآليف من (منائح الكرم) الى (تاريخ مكة)
و (الحرم المكي) وغير ذلك مما كان الباحث يرجع إليه فيما
توافر في مكتبته.
فماذا عند الإدريسي من جديد في عهده عن مكة في كتابه
المعلمة (نزهة المشتاق)(2) الذي كتبه سنة 548هـ/ 1153م؟
من الملاحظ منذ البداية أن الإدريسي يتجنب الأساطير المروية
عن هيّان بن بيّان. كما يلاحظ على العكس من ذلك، أن مكة
المكرمة تظل عنده القطب الذي يحيل اليه حتى لو تحدث عن
(أهل الصمّان الذين كتب لهم الفقر بأمان)، وحتى لو كان
حديثه عن قرية معدن النقرة التي يجتمع فيها حاج الكوفة
والبصرة.
ثم إنه ما ينفك ذاكراً الحجيج ومسالكه الى مكة، وهذا
يعبر عن تعلق الرجل بالمكان، ولو أنه أغفل الزمان. وهكذا
نجده، وهو يتناول الجزء الخامس من الإقليم الثاني، يذكر
ان فُرضة مكة هي جدة التي يذكر ان واليها كان تابعاً لشريف
مكة الهاشمي، الذي يقصد به ـ دون شك ـ هاشم بن فليتة الذي
تولى أمر مكة من سنة 527هـ/ 1132م، الى سنة 551هـ/ 1156م،
فهاشم هذا هو الذي أقام الخطبة للعباسيين(3).
ويؤكد الإدريسي في (النزهة) أن الهاشمي شريف مكة هو
الذي كان يقبض صدقات جدة ولوازمها ومكوسها ويحرس عمالتها.
ولها ـ وهي فُرضة مكة ـ مراكب كثيرة تتصرف الى جهات كثيرة.
ويقول عن مكة في عهده: إنها قديمة أزلية البناء، مشهورة،
معمورة مقصودة من جميع الأرض الإسلامية، وإليها محجهم
المعروف، وهي مدينة بين شعاب الجبال، وطولها من المعلاة
الى المسفلة نحو ميلين، وهو من حد الجنوب الى جهة الشمال،
ومن أسفل جبل أجياد الى ظهر جبل قُعيقعان ميل.
والمدينة مبنية في وسط هذا الفضاء، وبنيانها حجارة
وطين، وحجارة بنيانها من جبالها.
وفي وسط مكة مسجدها الجامع المسمى بالحرم، وليس لهذا
الجامع سقف، وإنما هو دائر كالحظيرة. والكعبة، وهو البيت
المسقف في وسط الحرم، وطول هذا البيت من خارجه من ناحية
الشرق أربعة وعشرون ذراعاً، وكذلك طول الشقة التي تقابلها
في جهة الغرب(4).
وشرقي هذا الوجه باب الكعبة، وارتفاع الباب على الأرض
نحو قامة(5). وسطح الكعبة من داخل مساو لأسفل الباب.
وفي ركنه الحجر الأسود، وطول الحائط الثاني الذي من
جهة الشمال وهو الشامي، ثلاثة وعشرون ذراعاً، وكذلك الشقة
الأخرى التي تقابلها من جهة اليمن.
|
الإدريسي في مجلس الملك روجار
الثاني يشرح له تفاصيل كرته الأرضية الفضية
|
ومع أصل هذه الشقة موضع محجوز في دائر، وطوله خمسون
ذراعاً، وفيه حِجْر أبيض يقال: إنه قبر إسماعيل بن إبراهيم
عليهما السلام.
وفي الجهة الشرقية من الحرم قبة العباس، وبئر زمزم،
والقبة اليهودية. وما استدار بالكعبة كله حطيم يوقد فيه
بالليل مصابيح ومشاعل. وللكعبة سقفان، وماء السقف الأعلى
يخرج عنه الى خارج البيت في ميزاب من خشب.
ويعتقد الباحث أن هذا الميزاب، الذي كان على عهد الإدريسي
من خشب، هو نفسه ميزاب ابن رامشت الذي نقل السنجاري أن
سنة 537هـ/ 1142م، شهدت وصول مثقال، خادم الشيخ أبي القاسم
بن رامشت صاحب الرباط المشهور، وصوله بعد موته بتابوته
ومعه ميزاب كان قد عمله سيده للكعبة، فركب الميزاب(6).
قال الشريف الإدريسي: وذلك الماء (النازل من الميزاب)
يقع على الحِجْر الذي قلنا: إنه قبر إسماعيل.
والبيت كله من خارج ـ على استداراته ـ مكسو بثياب الحرير
العراقية، لا يظهر منه شيء، وارتفاع سمك البيت المذكور
سبعة وعشرون ذراعاً. وهذه الكسوة معلقة فيه بأزرار وعرى،
وصاحب بغداد المسمى بالخليفة يرسلها في كل سنة اليها فتكسى
بها، وتزال الأخرى عنها، وهذا مهم، ولا يقدر أحد أن يكسوها
غيره!
ومن خلال هذا النقل الذي كان معاصراً تقريباً لهذه
المعلومة، نستفيد أن ما قاله التقي الفاسي: (وفي سنة خمسمئة
واثنتين وثلاثين كسا الشيخ أبو القاسم بن رامشت الكعبة)،
كان يعني أن أبا القاسم المذكور كان يعمل لحسابه الخاص
بتواطؤ مع هاشم بن فُلَيتة.
وقد حدث أن جرؤ الهاشمي هذا سنة 539هـ/ 1145م، على
نهب ركب الحاج العراقي بالحرم الشريف وهم يطوفون بسبب
حدث وقع بين هاشم وأمير الحاج العراقي، فكان هذا سبباً
لرد فعل من المقتفي الخليفة العباسي في بغداد (530 ـ 555هـ/
1135 ـ 1160م) تجلى في إنفاذ الخليفة المذكور ميزاباً
جديداً عوض ميزاب ابن رامشت. وفي السنة نفسها عمّر سقف
الكعبة، والدرجة التي يصعد منها الى سطحها(7).
يتحدث الإدريسي عما يذكره أهل الخبر من أن الكعبة كانت
خيمة لآدم عليه السلام، قبل أن يهدمها الطوفان، وتأتي
مدة إبراهيم وإسماعيل التي شهدت إعادة البنيان. بعد ذلك
يتحدث عن قضية الماء في مكة، وأنها لم تستتم إلا في أيام
المقتدر من بني العباس (295 ـ 320هـ/ 907 ـ 932م) وأن
مياه مكة زعاق لا تسوغ لشارب، وأطيبها ماء بئر زمزم، وماؤها
شروب غير أنه لا يمكن إدمان شربه، وأن ليس بجميع مكة شجر
ثمر إلا شجر البادية.
وذكر أن صاحب مكة كان يسكن في قصر له بالجهة الغربية
بموضع كان يعرف بالمربعة على بعد ثلاثة أميال من مكة،
وكان مبنياً من الحجارة، وتجاوره حديقة فيها نخيلات، وكثير
من المقل (الدوم)، وكان بها جملة شجر منقولة إليها.
ويتحدث عن الناحية الأمنية في البلاد، حينذاك فيقول:
وليس للهاشمي شريف مكة عسكر خيل، وإنما معسكره رحالة لا
خيل لهم، وتسمى رجّالته (الحرابة). ثم يصف شريف مكة، فيقول:
ولباسه البياض والعمائم البيض، وهو يركب الخيل، وسياسته
حسنة، وحكمه عدل، وإنصافه ظاهر، وإحسانه غدق على قدر إمكانه.
قال: ولمكة موسمان، ينفق فيهما كل ما جلب اليها: أحدهما
أول رجب، والآخر موسم الحجيج. ولأهل مكة أموال صامتة وأحوال
فاشية، ودواب وجمال، كما أن لمكة مخاليف وهي الحصون. ولا
زرع بها ولا حنطة إلا ما جلب إليها من سائر البلاد. والتمر
يأتي إليها كثيراً مما حولها، والعنب يجلب إليها من الطائف
[التي ينعتها بالمدينة المتحضرة] التي تأتي منها أكثر
فواكه مكة، ويضرب المثل بجودة بغالها. والغالب على ضعفاء
أهل مكة الجوع وسوء الحال. وإذا خرج أحد عن مكة في كل
جهة تلقاه أودية هنا جارية وعيون مطردة، وآبار غدقة، وحوائط
كثيرة، ومزارع متصلة.
والرجل في حديثه عن المسالك التي تصل مكة بالمدينة
لا يقتصر على المسلك الواحد، ولكنه يعدد الدروب لتختار
منها ما تشاء. وهو في هذه الأثناء يشير الى ما تأكد عندنا
من أنه شاهد عيان، يشير الى نمط من الناس سمة الشقاء عليهم
بادية.
وفي معرض حديثه عن المدينة المنورة قال: إنها تقع في
مستوى من الأرض، وإنها حارة سبخة، كان عليها سور قديم،
وبخارجها خندق محفور، وهي الآنفي [في حين تأليف الكتاب
في شوال 548هـ/ يناير 1154م] عليها سور حصين منيع من التراب
بناه قسيم الدولة الغازي، ونقل إليها جملة من الناس، ورتب
المسير إليها. وحولها نخل كثير وثمرها حسن. وشرب أهلها
من نهر صغير، يأتي إليها من جهة المشرق، جلبه عمر بن الخطاب
رضي الله عنه، وجاء به اليها من عين كبيرة الى شمال المدينة،
وأجراه بالخندق المحتفر بها. ومقدار مدينة يثرب على قدر
نصف مكة، وفُرضتها هي (الجار) وهي قرية آهلة عامرة.
ووصف الإدريسي مكة على نحو ما وصف به مدينة سبتة مسقط
رأسه، وعلى نحو هذا وجدناه يصف المسجد الأقصى بأنه ليس
في الأرض كلها مسجد على قدره إلا المسجد الجامع بقرطبة
في ديار الأندلس.
ظلت مكة محور حديث الإدريسي، حتى عندما تحدث عن مدينة
أودغشت في إفريقية الغربية عندما قال: إنها مدينة بين
جبلين على نحو مكة. وعندما قارن في آسيا بين مكة ومدينة
الجُرزوان التي تقع هي كذلك بين جبلين.
وهكذا فإن الباحث يرى أنه على مثل اليقين، إن لم يكن
اليقين كله، من أن الإدريسي ـ بهذه المعلومات ـ سجل رحلته
الى مكة، وأنه إذا لم يذكر طوافه وسعيه ووقوفه بعرفات،
وإذا لم يذكر من لقيه من الرجال، ومن زودوه بالمعلومات،
فلأنه يحترم موضوع التأليف الذي كان مخصصاً بالدرجة الأولى
للشأن الجغرافي الصرف، على الرغم من أنه ـ مع ذلك ـ لم
يستطع أن يحمي نفسه من ذكر حركة العمران بمكة المكرمة،
وذكر رجال النفوذ بها، وذكر الحالة الإقتصادية والإجتماعية.
فإذا أضيف الى كل هذا أنه كان يتحدث الى الملك روجار
الثاني الذي لم يكن يشاطره في المعتقد ولا في الهوية،
حينئذ تتضح طريقة الإدريسي في أدائه لهذه الرحلة التي
رأى الباحث أن من واجبه أن يذكرها في صدر الرحلات التي
أسهمت، وبصفة واضحة، في التعريف بأم القرى، وما كان حديثاً
يفترى.
الهوامش:
(1) أحمد سوسه، الشريف الإدريسي في الجغرافية العربية،
جـ 2، بغداد: نقابة المهندسين العراقيين، 1974م، ص 271،
وما بعدها.
(2) محمد بن محمد الإدريسي، كتاب نزهة المشتاق في اختراق
الآفاق، نابولي: المعهد الجامعي الشرقي، د. ت، تسعة أجزاء.
(3) علي بن تاج الدين السنجاري، منائح الكرم في أخبار
مكة والبيت وولاة الحرم، تحقيق: جميل عبدالله المصري،
وآخرون، جـ 2، مكة المكرمة: معهد البحوث العلمية وإحياء
التراث الإسلامي بجامعة أم القرى، 1998، ص 245.
(4) محمد بن عبدالله الأزرقي، أخبار مكة وما جاء فيها
من الآثار، تحقيق: رشدي ملحس، ط8، جـ1، مكة المكرمة: 1996،
ص 289.
(5) الأزرقي، جـ1، ص 307.
(6) السنجاري، جـ2، ص 246. وايضاً الهامش 3،4،5. والأزرقي،
جـ1، ص 311 ـ 314.
(7) السنجاري، ص 247.
|