أسواق مكة المكرمة عبر التاريخ
إبراهيم الأقصم
السوق: وجمعها أسواق. والسوق، المحل الذي يتسوق منه،
يبيع فيها الباعة، ويقصدها المشترون للشراء. وهي إما ثابتة
مع أيام السنة، وإما موسمية، تعقد في مواسم معينة، فإذا
انتهى الموسم رفعت. والسوق عبارة عن حوانيت، أو دكاكين،
أو موائد مبسوطة على الأرض، تعرض عليها البضائع. والسوق
تؤنّث، ويقال: نفقت السوق: أي راجت، ويقال: انحمقت السوق:
أي كسدت.
والحديث عن أسواق مكة المكرمة، يتطلب الإشارة الى النواحي
الإقتصادية والتجارية بها. وتتبع أسواق مكة عبر التاريخ،
يُجبر الباحث على الإطلاع على ما أوردته المصادر القديمة،
وما سطرته كتب الرحلات، وما وقفت عليه الدراسات الحديثة.
سيعمل الباحث على الإستفادة مما ذكرت المصادر عن الأحوال
الإقتصادية والمعيشية بمكة، وحركة التجارة، وما تضمنت
من إشارات عن أسواقها خلال عصور معينة.
المتتبع لتاريخ مكة وجغرافيتها ، يجد أنها كانت وادياً
غير ذي زرع، لا ماء فيه ولا شجر، تحيط به الجبال الوعرة
من كل الاتجاهات. ولم يكن يُتصور أن تكون في يوم ما صالحة
للحياة، لكن حكمة الله سبحانه وتعالى تجلّت في أن يجعلها
قبلة الناس حين أمر سيدنا إبراهيم، وابنه اسماعيل عليهما
السلام، بالهجرة اليها، فتحققت المعجزة الخالدة بتفجر
عين زمزم بها، وبناء البيت العتيق (الكعبة) ليصبح مكاناً
مقدساً يفد اليه الناس ركباناً ورجالاً، ليؤدوا فريضة
الحج، فأصبحت مكة قبلة العالم ومحط الأفئدة. وقد صور القرآن
هذه المراحل في عدة آيات. يقول تعالى: (ربنا إني أسكنت
من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا
الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات
لعلهم يشكرون). وقوله تعالى: (أولم يروا أنا جعلنا حرماً
آمناً ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة
الله يكفرون). وقوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل
هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله
واليوم الآخر قال ومن كفر فأُمتعه قليلاً ثم أضطره الى
عذاب النار وبئس المصير).
هذه القدسية والخصوصية جعلت لمكة مكانة اقتصادية مرموقة
عبر التاريخ، من خلال القوافل التجارية وأسواقها، ولكن
المصادر لم تقف على تاريخ محدد لنشأة الأسواق بمكة. ويبدو
أن القبائل التي كانت تحكم مكة قبل قريش (جرهم وخزاعة)
لم ترجح موقعاً آمناً لإقامة الأسواق بها، مما يؤكد أن
أمر الأسواق ظهر بمكة بظهور قبيلة قريش، خاصة في عهد زعيمها
التاريخي قصي بن كلاب.
ازدادت مكانة مكة عندما قامت على أمرها قبيلة قريش،
التي اشتهرت بتنظيماتها الإدارية وحنكة رجالها. وقد ذهب
أحد الباحثين الى أن تاريخ مكة الحقيقي يبدأ منذ تولي
قصي بن كلاب القرشي أمر مكة، في منتصف القرن الخامس الميلادي
تقريباً. فقد قام قصي بعدة أعمال جعلت مكة مركزاً اقتصادياً
مرموقاً. والمعروف أن مكة في عهد قريش أقامت علاقات متنوعة
مع البلدان المجاورة لها كالطائف ويثرب، ومع بعض القبائل
التي كانت تقطن على الطريق، لتحمي تجارتها، فحدث لها ما
أرادت وازدهرت أسواقها.
جاء ذكر قريش صريحاً في القرآن والسنّة. فلا غرابة
أن يصف القرآن قبيلة قريش وتجارتها في سورة قريش: (لإيلاف
قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا ربّ هذا البيت،
الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).
وقد أشارت المصادر والدراسات الى مصطلح الإيلاف، وتجارة
قريش، ورحلة الشتاء والصيف، وبيّنت دور قادتهم في بناء
أحلاف ومعاهدات مع قبائل ودول كبرى، لإبرام صفقات تجارية،
كالروم والفرس واليمن والحبشة. فأصبحت مكة بسبب اتفاقية
الإيلاف موقعاً متميزاً على طريق التجارة العالمية آنذاك،
مما ساهم في ازدهار أسواق مكة وتجارتها.
وردت في كتب السنّة عدة أحاديث في قبيلة قريش وفضلها
ومكانتها، وهذا الأمر حددت له العديد من مصادر الحديث
أبواباً وفصولاً.
بعد حملة أبرهة الحبشي لهدم الكعبة المعظمة، والمؤرخة
بعام الفيل (570-571م) والواردة في سورة الفيل في قوله
تعالى: (ألم ترَ كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم
في تضليل، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من
سجيل، فجعلهم كعصف مأكول). زاد صيت القرشيين الذين لم
يتصدوا لهذه الحملة متيقنين أن للبيت رباً يحميه، فحدث
ما تيقنوه، وباءت الحملة بالفشل، مما زاد في مكانة مكة
دينياً وارتفعت مكانة قريش، فاشتهروا بأنهم أهل الله،
وولاة الكعبة، وجيران الحرم.
يمثل القرن السادس الميلادي بعداً اقتصادياً جيداً
لقريش، حين أمسكت مكة بزمام التجارة في بلاد العرب، فطريق
التجارة الذي يمر بها أصبح أكثر أمناً بعد اتفاقية الإيلاف،
وأصبحت مكة في منأى عن الصراع الدولي القائم آنذاك بين
الفرس والروم، وخاصة حين أخذت قريش مواقف حيادية تجاه
الأطراف المتنازعة.
أشارت الدراسات الى أن مكة أصبحت بعلاقتها الخارجية
وأحلافها مع المجاورين لها آنذاك، مركزاً تجارياً تعج
أسواقها بالخيرات القادمة من الشام والحبشة وبلاد فارس.
وظهرت منها شخصيات قرشية عظيمة، وأسر ثرية قبيل الإسلام،
كعبد الله بن جدعان التيمي، والوليد بن المغيرة المخزومي،
وأبي سفيان الأموي. كما كان للنساء نشاط ملحوظ في أسواق
مكة، كخديجة بنت خويلد التي كانت تمارس التجارة في سوق
مكة الحزورة، وكانت معها أختها هالة، فكانتا تبيعان الأدم.
ومثلهما هند بنت عتبة التي كانت من النساء الشهيرات بمكة
في عمل التجارة بالأسواق، وكانت تصحب زوجها أبا سفيان،
في رحلاته للتجارة.
صارت أسواق مكة قبل الإسلام وكالات مهمة للروم والأحباش،
حيث ظهرت تنظيمات تجارية وتعاملات حسابية، وعملات ونقود،
ومكاييل، استخدمت في تلك الأسواق، وقد أكد ذلك العديد
من المصادر، خاصة الأجنبية.
اشارت المصادر الى أسواق العرب الموسمية القائمة في
الجاهلية وطبيعتها، وما يهمنا منها: أسواق مكة. فقد ذكر
الأزرقي، وغيره من المؤرخين، عدة روايات عن مواسم العرب
وأيامهم وتجمعاتهم بمكة وما حولها، ومفادها: إنه إذا كان
موسم الحج، خرج الناس من عدة قبائل يوم هلال ذي القعدة،
الى سوق عُكاظ، كل له مكانه، ورايته منصوبة، يضبط كل قبيلة
أشرافها وقادتها، ويتم بينهم البيع والشراء مدة عشرين
يوماً. ثم يمضون الى سوق مِجنّة فيقيمون بها عشراً، أسواقهم
قائمة، وإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا الى سوق ذي المجاز
بعرفة، أقاموا بها ثماني ليال أسواقهم قائمة. وكان يحضر
هذه الأسواق التجار ومن يريد التجارة. وكان العرب لا يتبايعون
في يوم عرفة ولا في يوم مزدلفة، ولما جاء الإسلام أحلّ
الله لهم ذلك. قال تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً
من ربكم). وفي قراءة أبيّ بن كعب: [في مواسم الحج]، يعني:
منى وعرفة وعكاظ ومجنة وذي المجاز، فهذه مواسم الحج. وقد
وضع البخاري في (صحيحه) باب (الأسواق التي كانت في الجاهلية
فتبايع بها الناس في الإسلام).
|
سوق المسعى، أو شارع المسعى،
وتبدو الدكاكين والمحال التجارية على جانبي المسعى،
ويظهر في الصورة مظلة المسعى باتجاه المروة، معلّق
عليها لوحة تسجل تاريخ إنشائها (1366هـ/ 1947م)
وعلى يسار الصورة باب علي. التقط الصورة مصور
مجهول الهوية (مجموعة فيصل عراقي). |
استمرت أسواق عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، قائمة منذ الجاهلية
الى الإسلام، ثم انتهت وتلاشت وخربت. فقد تركت عكاظ بعد
أن جاءت فتنة الخوارج سنة 129هـ/ 746م، فخافوا من فتنة
الخوارج. ثم تركت مجنة وذو المجاز، واستغنى الناس عنها
بأسواق مكة ومنى وعرفة.
مواقع أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز محل خلاف بين المؤرخين
والدارسين. فسوق عكاظ كانت تقع بين مكة والطائف على مرحلتين
من مكة، وعلى مرحلة من الطائف، وكانت تقع جنوب مكة الى
الشرق، وكانت تعتبر السوق التجارية الكبرى للعرب، وفيها
تنظم القصائد وتقام العهود، ويباع الرقيق، وغير ذلك من
الأمور المعاشية. وسوق مجنة كانت تقع بمر الظهران أسفل
مكة قرب جبل يقال له الأصفر، وقد كانت سوقاً لكنانة، وهي
على بعد بريدين (البريد إثنا عشر ميلاً). وذو المجاز كانت
سوقاً لهُذيل عن يمين الموقف بعرفة، قرب جبل كبكب، خلف
عرفات، مشرفاً عليها، وعلى بعد فرسخ منها.
أبرز المنتجات التي كانت متداولة في أسواق عكاظ ومجنة
وذي المجاز كانت: الحبوب، والتمور، والإقط، والشحوم، والجلود،
والأدم ـ الذي كان يباع بكثرة في سوق عكاظ ـ وبعض المنسوجات
والثياب، والبرود بأصنافها كاليمانية، والخز العراقي،
والقباطي المصرية، كما كانت الأسلحة تباع في تلك الأسواق
كالسيوف والرماح والدروع، والحيوانات كالخيول، والطيب
كالمسك والعنبر والبخور، والأصباغ كالحنة والكتم والزعفران.
بظهور الإسلام، وتوسّع البلدان، واستقرار الناس، وتحضر
العرب، خفّت الأسواق الموسمية، وحلّت محلها الأسواق الدائمة،
وكفى الله العرب مؤونة الترحال بين الأسواق. لكن الأسواق
الموسمية كانت ولازالت مستمرة، وتركزت في مشاعر مكة، كمنى
وعرفة. وهو ما أشار اليه بعض الرحالة، كما سيأتي.
الإسلام نظم العلاقات التجارية، ووضع معايير البيع
الصحيح، وحرم الربا وحرم بعض البيوع التي كانت موجودة
في أسواق الجاهلية عموماً، ومكة خصوصاً.
كان النبي صلى الله عليه وسلم ممن ينزل الى الأسواق
ويتاجر بها. فقد كان يعمل في شبابه على تجارة السيد خديجة
بنت خويلد رضي الله عنها. كما كان صلى الله عليه وسلم
يزور أسواق الموسم ويقوم بنشر دعوته ورسالته، فكان يحضر
اسواق عكاظ، ويشهد ما بها من فعاليات. حتى استنكر عليه
كفار مكة نزوله بالأسواق، كما ورد بنص القرآن الكريم:
(وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق
لولا أُنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا). وقوله: (وما ارسلنا
قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق).
بعد عام الفتح، عام 8هـ/ 629م، واستقرار الإسلام بمكة،
شهدت أسواقها الموسمية تراجعاً كبيراً، كما أن موسم الحج
لم يعد فقط للقرشيين، فقد كان الكثير من التجار من خارج
مكة يشاركون في البيع بالأٍواق.
ذكر الفاكهي أن سوق (الحزْورة) بمكة دبّ إليها الضعف
في أول الإسلام، بسبب نشأة الأسواق التجارية المتخصصة
بجوارها. كما نشأت في موضع الأبطح بمكة أسواق تجارية وحرفية.
وقد كانت سوق الليل نشيطة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله
عنه.
خلال القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي، تنوعت أسواق
مكة، وأصبحت تصنف حسب المهن. ذكر الأزرقي عدة أسواق متخصصة
بمكة، كسوق الغنم، الذي كان موجوداً في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم. وأخرج الأزرقي بسنده عن ابن جريج
قال: لما كان يوم الفتح، فتح مكة، جلس رسول الله صلى الله
عليه وسلم على قرن مسقلة، فجاءه الناس يبايعونه بأعلى
مكة عند سوق الغنم. وذكر محقق الكتاب أن سوق الغنم كان
يقع في الوادي الواقع شرقي جبل الرقمتين، وكان يسمى سوق
الجودرية.
اشتهرت أسواق مكة بالوزّانين الذين كانوا يستخدمون
الفضة في أوزانهم، وقد أقرّهم رسول الله وشهد لهم بالوزن
الراجح.
وازدهرت أسواق مكة خلال القرن الأول الهجري/ السابع
الميلادي، ومما أسهم في انتشارها وازدهارها، مجموعة من
الأسباب، منها: ظهور عملة اسلامية خاصة ومتداولة بين المسلمين،
واستيطان العديد من أهل البلاد المفتوحة بمكة، ووجود الموالي
بكثرة، ووجود الرقيق الذين جلبهم الصحابة من بلاد شتى،
والذين اشتغلوا في الأسواق، وكانوا أصحاب حرف متعددة.
كما كان لموسم الحج أثر كبير على حركة الأسواق بمكة حيث
تزداد حركة الشراء والبيع.
انتشرت الأسواق بمكة في الغالب قرب أبواب الحرم، كما
تأثرت حركة الأسواق بها خلال القرنين الأولين الهجريين/
السابع والثامن الميلاديين، بعوامل عديدة، منها: الكوارث
الطبيعية، كالسيول والأمطار، والعوامل السياسية، كالحروب
والثورات، والأوبئة والأمراض وغيرها.
أسواق مكة التي كانت قائمة حتى منتصف القرن الثالث
الهجري/ التاسع الميلادي، ذكر الأزرقي منها ما يقرب من
30 سوقاً مثل: سوق الليل، وسوق العطارين، وسوق الحدادين،
وسوق الحذائين، وسوق الفاكهة، وسوق الرطب، وسوق ساعة،
وسوق الحمارين، وسوق البرامين، وسوق الحجامين، وسوق الصيارفة،
وسوق القواسين، وسوق اللبانين، وسوق البزازين، وسوق الحطب.
أسواق مكة في منتصف القرن العشرين
تلك الأسواق التي ذكرها الأزرقي اشار اليها الكردي
(1321 ـ 1400هـ/ 1903 ـ 1979م) في كتابه (التاريخ القويم)
فقد نقح أسماءها ثم بيّن مواضعها، فكانت كالتالي:
1/ سوق البزازين، جهة سوق الليل.
2/ سوق العطارين، كان بقرب المسجد الحرام جهة باب بني
شيبة.
|
السوق الصغير بمكة المكرمة
عام 1335هـ/ 1916م |
3/ سوق الفاكة، بسوق الليل.
4/ سوق الصيارفة، بأول أجياد.
5/ سوق الغزّالين، بأول أجياد.
6/ سوق الرطب، بسوق الليل.
7/ سوق الغنم، بالجودرية عند المدّعى.
8/ السوق الصغير، بموضعه المعروف اليوم.
9/ سوق ساعة، بالمعلا عند أول شعب عامر.
10/ سوق الرقيق، عند جبل أبي قبيس.
11/ سوق اللبّانين، بجهة سوق الليل.
12/ سوق الخلقان، بالمسعى.
13/ سوق الحطب، عند الشبيكة جهة الهجلة.
14/ سوق الحمّارين، ثم سمي بسوق الكراع وكان عند المدّعى.
15/ سوق العلاّفين، أمام باب أجياد. 16/ سوق الحوّاتين،
بأجياد الكبير.
17/ سوق القوّاسين، جهة حراء الظاهر.
18/ سوق البقّالين، بجهة باب أم هانئ عند باب الوداع.
19/ سوق البرّامين، بجهة المروة.
20/ سوق الحدّادين، بجهة سوق الليل.
21/ سوق الحجّامين، عند المروة.
22/ سوق الحذّائين، ما بين الصفا والمروة.
23/ سوق الليل، بموضعه المعروف اليوم.
24/ سوق الورّاقين، بأسفل مكة.
25/ سوق الدقانين والمزوقين، بجهة القبان عند المروة.
26/ سوق الحبوب والسمن والعسل، بجهة القبان عند المروة
أيضاً.
27/ سوق الخياطين، عند دار أم هانئ بالحزورة.
28/ سوق الخياطين، عند باب إبراهيم جهة السوق الصغير.
29/ سوق الجزّارين، بالمدعى.
30/ سوق النجّارين، بجهة سوق الليل.
أسواق مكة في العهد الفاطمي
منذ منتصف القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، وبالتحديد
في العهد الفاطمي، انتشرت الصراعات بين أسرة الهواشم،
أمراء مكة حينذاك، فانعكس ذلك على الناحية الإقتصادية،
حيث عمّ الجوع والقحط، وقلّ الماء، وسرق الحجيج، وضربت
عليهم المكوس، مما أثر على أسواق مكة فارتفعت أسعارها.
الرحالة ناصر خسرو زار مكة خلال العهد الفاطمي، وبالتحديد
في موسم حج عام 442هـ/ إبريل 1051م، فوصف الضيق الذي عاناه
أهل مكة، كقلة الماء. كما أنه أحصى عدد سكانها، وذكر أن
أهلها كانوا لا يزيدون عن ألفين، والغرباء فيها لا يزيدون
عن الخمسمائة، في دلالة الى أن هجرة الناس من مكة كانت
بسبب الكساد والغلاء والفتن. كما وصف خسرو حالة الأسواق،
فأحصى الدكاكين الخاصة بالحلاقين قرب المروة، ودكاكين
الحجامين قرب المسعى، فذكر أنها عشرون دكاناً. وتلك الدكاكين
كانت امتداداً لسوق كبير يقع شرق الحرم، يقال له سوق العطارين،
وذكر أن أكثر ما كان يباع فيه الأدوية والعقاقير والأعشاب
والحشائش.
لكن هناك أزمنة معينة من العهد الفاطمي، تحقق فيها
الأمن بمكة، وازدهرت بها الأسواق، فعندما دخل محمد بن
علي الصليحي مكة سنة 455هـ/ نوفمبر 1063م، أمّن الحجاج،
وأظهر العدل، وحارب المفسدين، وجلب لها الأقوات، فرخصت
الأسعار وانتعشت الأسواق.
أسواق مكة في العهد الأيوبي
بعد سقوط الحكم الفاطمي على يد الأيوبيين، دخلت مكة
مرحلة جديدة من الاستقرار، خاصة في عهد صلاح الدين الأيوبي،
الذي أوقف المكوس الظالمة عن الحجاج. فقد ذكرت المصادر
أن صلاح الدين أبطل سنة 572هـ/ 1176م، المكوس التي كانت
تؤخذ من بعض الحجاج، لكنه عوّض أمير مكة حينها ـ الأمير
مكثر ـ بآلاف الدنانير وبإردبات من القمح. وكان ابن جبير
ممن شهد تلك المرحلة، ورأى ما كان يحدث للحاج، إذا لم
يدفع تلك المكوس، وأثنى على إلغاء السلطان صلاح الدين
لها.
الرحالة الإدريسي (ت 560هـ/ 1164م) كان قد زار مكة
في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، فوصف أسواق
مكة في العهد الأيوبي، وذكر أنه كان لمكة موسمان تجاريان
في رجب والحج، تزدهر فيهما حركة السوق.
ابن جبير حج في عام 579هـ/ أغسطس 1183م، ووصف أسواق
مكة في العهد الأيوبي قائلاً: (ولم يكن لها من المتاجر
إلا أوان الموسم ففيه مجتمع أهل المشرق والمغرب، فيباع
فيها في يوم واحد ... ما لو فرق على البلاد كلها لأقام
لها الأسواق النافعة، ولعمّ جميعها المنفعة التجارية،
فما على الأرض سلعة من السلع ولا ذخيرة من الذخائر إلا
وهي موجودة فيها مدة الموسم). كما ذكر ابن جبير ما يباع
في أسواق مكة من الدقيق الى العقيق، ومن البر الى الدر،
والفواكه بأنواعها، وغير ذلك من السلع.
انتعشت الأسواق بمكة في العهد الأيوبي لعدة أسباب،
منها وجود عملة أيوبية. فقد ذكرت المصادر أن صلاح الدين
أمر أخاه طغتكين ببناء دار لضرب النقود باسمه في مكة المكرمة،
سنة 581هـ/ 1185م، وكانت تسمى بالدراهم الناصرية. ثم تغيرت
هذه الدراهم في عهد الملك الكامل بن العادل الذي أمر سنة
622هـ/ 1225م، بضرب دراهم مستديرة سماها الدراهم الكاملية.
ثم تغيرت الدراهم وسميت بالمسعودية، نسبة الى الملك المسعود
يوسف بن الكامل. ومما ساهم في انتعاش اسواق مكة، ميناء
جدة، على البحر الأحمر، الذي ظهرت أهميتة في تلك الحقبة،
فأصبحت تمر به التجارة العالمية، مما أكسب أسواق مكة أهمية
بحكم القرب بين مكة وجدة.
وظهرت في العهد الأيوبي طبقة من التجار المعروفين الكارم،
نسبة للكارمية، اشتهروا بالتجارة الشرقية بالعموم، وبتجارة
التوابل بالخصوص، واحتكروها فأصبحت لهم مكانة عالية بمكة،
فاشتغلوا بأعمال الصيرفة وأنعشوا أسواق مكة، واستمروا
حتى نهاية العهد المملوكي تقريباً.
كما تأثرت الأسواق في العهد الأيوبي ببعض الأزمات،
بسبب حدوث الجدب والقحط وقلة المطر، فارتفعت الأسعار كما
حدث في سنة 569هـ/ 1173م.
أسواق مكة في العهد المملوكي
في بداية العهد المملوكي، أي منتصف القرن السابع الهجري،
الثالث عشر الميلادي، ظهرت عدة مشكلات بمكة المكرمة أثرت
على حركة التجارة بالعموم وحركة الأسواق بالخصوص، منها:
ـ الغزو المغولي لبغداد، ومن ثم لبلاد الشام (656هـ/
1258م) فأثّر على حركة التجارة بين الشام والحجاز، مما
أثر على حركة الأسواق.
ـ النزاع الذي كان بين المماليك ودولة بني رسول باليمن
على مكة.
ـ الصراعات بين الأشراف بمكة، وعدم استتباب الأمن في
أزمان متفاوتة.
ـ المكوس والعشور التي كانت تؤخذ من التجار والحجيج.
ـ تدخل المماليك في شؤون التجارة بمكة، وسيطرتهم على
ميناء جدة، وتحكمهم في أمر التجار.
ابن بطوطة وصف أسواق مكة في العهد المملوكي وأشار الى
الأسواق المنتظمة، كسوق المسعى، وسوق البزازين، والعطارين
عند باب شيبة. كما أشار الى بعض الدكاكين غير المنتظمة
بين الصفا والمروة، والتي كانت تعيق الساعين، وتباع فيها
الحبوب واللحوم والتمر والسمن والفواكه. وقد أصدرت الدولة
المملوكية عدة قرارات تتعلق بمنع الناس بسط بضائعهم بالمسجد
الحرام، خاصة أيام الموسم، كما حدث في سنة 830هـ/ 1426م،
حين أمر السلطان المملوكي بمنع الباعة المصريين من الجلوس
في الحوانيت، وإخراجهم من مكة لاحتكارهم المعاش، وكثرة
إضرارهم بالناس، كما حدث في سنة 843هـ/ 1440م.
وخلال العهد المملوكي، كانت الأسعار ترتفع أحياناً
بسبب الكوارث والأزمات. وقد ضمنت بعض المصادر كـ (إتحاف
الورى) و (بلوغ القرى) قضية الأسعار وارتفاعها ضمن أبرز
الأحداث لكل سنة. وقد قام بعض الدارسين بالرجوع الى هذه
المصادر، ورصد الأزمات الإقتصادية التي مرت بمكة خلال
العهد المملوكي، ومن ثم إخضاعها للدراسة والتقصي، وتحليل
أسبابها ونتائجها.
وأشهر أسواق مكة في العهد المملوكي كانت: سوق باب إبراهيم،
وسوق التمّارين، وسوق الصيارفة، وسوق العطارين، وسوق النداء،
وسوق الليل، وسوق المعلاة، وسوق المدعى، وسوق الرقيق،
وسوق الصاغة.
أسواق مكة في العهد العثماني
|
سوق المدّعى بمكة المكرمة
|
ظلّت مكة تحت الحكم العثماني حوالي أربعة قرون، عاشت
فيها بالعموم ازدهاراً أفضل من العهد المملوكي، وذلك لأن
العثمانيين اهتموا بمكة أكثر من الولايات الأخرى، فأنفقوا
عليها الأموال والصدقات والهدايا والجرايات، والمحامل،
مما انعكس على الحركة التجارية بمكة عموماً وأسواقها خصوصاً.
ويمكن التعرف على أسواق مكة في العهد العثماني من خلال
ما رصده بعض الرحالة. فالمستشرق الرحالة بوركهارت، أفاض
في وصف اسواق مكة من خلال زيارته لها عام 1230هــ 1231هـ/
1814 ـ 1815م، فذكر أن عدد محلات النحاسين بشارع المسعى
كان 12 محلاً، ووصف السيوف الجميلة، وذكر المطاعم والمشارب
اللذيذة. ثم ذكر بعض ما تحتويه اسواقها، فسوق سويقة كانت
تباع بها الشيلان الكشميرية الراقية، وكانت بها دكاكين
تباع بها العقود المرجانية واللؤلؤ والسُبح، والعود، والقلائد،
وخواتم العقيق. وأحصى حوانيت العطور، فذكر أنها كانت أكثر
من عشرين حانوتاً. كما ذكر أسواق الشامية واشتهارها بالأقمشية
الحريرية والحلبية والدمشقية والقطنية والكتانية، والسجاجيد
الجميلة. وذكر أسواق القشاشية وبيّن ما كان فيها من حوانيت
لصنع السلاح، وسوق الليل التي كانت تشتهر بالأواني الفخارية،
وسوق الغزة التي كانت تعرف بسوق البقر والإبل، وخلفها
كانت سوق الحدادين. وفي أسواق المعلاة كان البقالون والعطارون
وتجار الحبوب وباعة الخردة وباعة الأحذية؛ وفي أطراف المدعى
الشمالي كان صاغة الذهب والفضة.
أما المستشرق الهولندي سنوك هورخرونيه فقد زار مكة
في سنة 1291-1292هـ/ 1874ـ1875م، خلال العهد العثماني،
وتحدث عن بعض أسواق مكة، وذكر أن معظم الشوارع الرئيسية
كانت أسواقاً، وتحدث عن سوق الرقيق، فذكر أن ذلك السوق
كان يباع فيه الرقيق القادم من جزر الهند الشرقية، ومن
المستعمرات الهولندية والبريطانية. كما أشار هورخرونيه
الى بعض الأسواق التي ذكرها الأزرقي في القرن الثالث الهجري/
التاسع الميلادي، وأنها كانت ما زالت قائمة في القرن الثالث
عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي، كسوق الليل وسوق المسعى.
والرحالة البتنوني زار مكة في حج عام 1327هـ/ 1909م،
وذكر أن أسواق مكة كانت كثيرة، منها سوق الشامية في شمال
الحرم، وهي أشبه بالأسواق التركية. والسوق الصغير، وأغلب
ما كان فيه الأغذية والخبز واللحوم والخضار، والأسماك
المقلية.
أسواق مكة في العهد السعودي
شهدت مكة في العهد السعودي نهضة عمرانية، فتطورت اسواقها
وتعددت وتنوعت. وأقيمت المراكز التجارية الكبرى الفخمة
ذات الأدوار المتعددة، ونشطت الحركة التجارية، وتعددت
الأسواق وتنوعت، مما أضعف قضية التخصص في الأسواق، والتي
كانت معروفة في العصور السابقة. وأصبحت جل شوارع مكة أسواقاً،
وأشهر الأسواق أو المراكز التجارية الموجودة بمكة حالياً:
سوق الحجاز، سوق النّورية، سوق الغزة، سوق العتيبية، سوق
الضيافة، سوق دواس، سوق العزيزية، سوق الستين، سوق العائلة،
سوق شارع المنصور. ولازالت هناك اسواق صغيرة لم تستطع
المراكز التجارية ضعضعة مكانتها التجارية، بالإضافة الى
ما يعرف بالحلقة، أو سوق الخضرة، أو سوق المواشي.
تنظيمات الأسواق بمكة
جعل الإسلام للأسواق آداباً وأحكاماً، وجعل متابعة
الأسواق من المهام التي يقوم بها صاحب الحسبة، لمراقبة
حركة البيع والشراء، أسوة بما كان يفعله الرسول صلى الله
عليه وسلم وخلفاؤه من بعده، إذ كانوا يتفقدون الأسواق
ويتابعون المكاييل والموازين لضبط الغش والخداع. فعندما
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتفقد السوق ذات مرة، وجد
أحد الباعة يغش الناس بوضع الطعام أو الحبوب الرديئة في
موضع لا ينتبه اليه الناس، فقال له: (ماهذا يا صاحب الطعام؟).
قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: (أجعلته فوق الطعام
ليراه الناس؟ من غش فليس مني).
وظلت أسواق مكة تحت المراقبة والإشراف، فمنذ صدر الإسلام،
استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على سوق مكة بعد
الفتح سعيد بن العاص، وكان الذي يشرف على السوق آنذاك
يسمى المحتسب، وكانت مهمته متابعة أسواقها ومحاسبة المخالفين
لأنظمة السوق، ومكافحة الغش، ومنع بيع الألعاب المحرمة،
وإتلاف المسكرات وآلات اللهو، ومراقبة المكاييل. واستمر
مصطلح الحسبة والمحتسب الى أن تغير في العصر الحديث، وبالتحديد
سنة 1332هـ/ 1914م، وأصبحت الهيئة التي تراقب أسواق مكة
هي ما يعرف حالياً بـ (أمانة العاصمة المقدسة).
وقد اشتهرت أسواق مكة بالتنظيمات والقوانين الصارمة
للعناية بها، من ذلك:
ـ يشترط في بناء الأسواق أن تكون عالية ومرتفعة ومنسقة
ومنتظمة، وممراتها مسقوفة مظللة، وكان أثر ذلك واضحاً
في سوق المسعى، وسوق سويقة.
ـ عدم السماح للتجار بإخراج بضائعهم خارج حدود الدكاكين،
وإن حدث ذلك فهو من المخالفات التي يعاقب عليها.
ـ منع المخلفات التي تؤدي الى اتساخ السوق، كالرماد
أو الطين، والتشديد على النظافة.
ـ الاهتمام بالناحية الأمنية ومكافحة السرقات والحرائق.
ـ التخصص التجاري، فقد كانت بمكة أسواق متخصصة، كسوق
الحجامين، وسوق الحدادين ، وسوق الغنم، وسوق العطارين
وغيرها. وقد أكد على ذلك المؤرخون والعديد من الرحالة
الذين زاروا مكة عبر العصور التاريخية كناصر خسرو وابن
جبير وبوركهارت والبتنوني.
أما العملات المتداولة في أسواق مكة في الجاهلية وبداية
عهد الإسلام الى عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكانت
هي الدراهم والدنانير التي كانت متداولة في بلدان أخرى
خارج مكة، لأن العرب لم يكونوا يعرفون ضرب العملة حينها.
وقد قدمت دراسة (من نشر الغرفة التجارية والصناعية بمكة
المكرمة) عرضاً تاريخياً لأنواع النقود أو العملات التي
كانت متداولة بأسواق مكة منذ القدم الى الوقت المعاصر.
كما قدمت تلك الدراسة استعراضاً تاريخياً لأنواع المكاييل
والموازين التي كانت قد استخدمت في أسواق مكة عبر التاريخ
والتي كانت من خلالها تتم عملية البيع والشراء.
مصادر المواد الغذائية بأسواق
مكة (التموين)
عُرفت مكة بأنها واد غير ذي زرع، تحف بها الجبال من
كل مكان، لكن هناك عدة أماكن تعد مصدر تموين لأسواق مكة
خاصة في مواسم الحج. فمن داخل الحجاز، كانت هناك عدة أماكن
تمدّ أسواق مكة بالغذاء كالطائف المشهورة بالفواكه والخضروات،
وبعض الأودية التابعة لمكة، كوادي مر، ووادي نخلة. ومن
خارج الحجاز كانت هناك عدة مصادر تموّن أسواق مكة بالمواد
الغذائية، مثل:
ـ بلاد زهران وغامد التي كانت تعرف قديماً.
ـ بلاد اليمن، وأبرز ما كان يأتي منها، الذرة والبن.
ـ السودان والحبشة ويأتي منهما (الحبوب والغلال).
ـ البلاد المصرية ويأتي منها الحبوب بأنواعها.
ـ بلاد الشام ويأتي منها الفواكه والمنسوجات.
ـ وبلاد الهند التي يأتي منها (الفلفل والبهارات الأخرى).
وأسواق مكة عبر التاريخ كانت تعج بالسلع والبضائع التي
تأتيها من بلدان مختلفة، فأصبحت مركزاً عالمياً، ومن هذه
السلع: التوابل، العقاقير الطبية، الطيوب، الأحجار الكريمة،
المنسوجات الجميلة والفاخرة، الخيول والطيور، والكتب،
والذهب والفضة والأحجار الكريمة.
|