أسطوانة عائشة (رضي الله عنها)
عمر عريق
أسطوانة أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، هي
إحدى الأساطين التاريخية في الروضة المطهرة بالمسجد النبوي
الشريف. تعرف ايضاً باسطوانة القرعة، وباسطوانة المهاجرين،
أو بمجلس المهاجرين، ويطلق عليها أحياناً مع غيرها من
الأساطين وصف (المُخلّقة)، أي المعطّرة بطيب الخلوق.
وجه تسميتها بأسطوانة عائشة، أن أم المؤمنين رضي الله
عنها، هي التي أخبرت بها، وحددت مكانها(1). وقيل: لم تحددها
السيدة عائشة رضي الله عنها، ولكن استُنبط مكانها بعد
ذلك(2). وقيل: هي التي كانت عائشة رضي الله عنها تتهجد
عندها ليلاً(2).
أما تسميتها بأسطوانة القرعة، فللحديث الذي روته السيدة
عائشة رضي الله عنها(4)، وورد فيه: (لو يعلم الناس بها
ما صلّوا فيها إلا أن تطير لهم قرعة). والحديث: (لو عرفها
الناس لاضطربوا على الصلاة عندها بالسهمان). وسيأتي ذكرهما.
أما تسميتها بأسطوانة المهاجرين(5) أو بمجلس المهاجرين(6)،
فلأن أكابر الصحابة من المهاجرين رضي الله عنهم، كانوا
يجتمعون عندها، واعتادوا الجلوس حولها، وتحروا الصلاة
الى جوارها، حتى قيل لمجلسهم هذا مجلس القلادة(7)، بينما
ذكر المطري والسمهودي، أن الأسطوانة التي كان يعقد عندها
ذلك المجلس، ويقال له مجلس القلادة، هي أسطوانة الوفود(8).
وقيل لها الأسطوانة المخلّقة، لأنها كانت تخلّق أيضاً
مع الأسطوانة المخلّقة الأصلية التي عند المحراب بطيب
الخلوق(9).
هذه الأسطوانة مع مثيلاتها السبع الأخريات، حظيت باهتمام
بالغ من المؤرخين ومصنفي الآثار، فاعتنوا بها منذ الوهلة
الأولى حتى عصرنا الحاضر، متتبعين شأنها عبر التغيرات
والتوسعات التي شهدها المسجد النبوي على مر الزمان.
يقول ابن زبالة، في تحديد موقعها: (حدثني غير واحد
من أهل العلم منهم الزبير بين الحبيب، أن الأسطوان التي
تدعى أسطوان عائشة، هي الثالثة من المنبر، والثالثة من
القبر، والثالثة من القبلة، والثالثة من الرحبة، أي قبل
زيادة الرواقين المتوسطة للروضة)(10). وبزيادة الرواقين
صارت خامسة من رحبة المسجد(11). ويقول الحربي: (وهي الأسطوانة
التي بينها وبين القبر أسطوانتان، وبينها وبين المحراب
أسطوانتان، فهي واسطة بينهن)(12). ويحددها ابن النجار
بأنها (الأسطوانة التي بعد أسطوانة التوبة الى الروضة،
وهي الثالثة من المنبر، ومن القبر، ومن رحبة المسجد، ومن
القبلة، وهي متوسطة في الروضة)(13).
وزاد الفيروزآبادي: (وهي في الصف الأول خلف الإمام
إذا صلى في محراب النبي صلى الله عليه وسلم)(14). وأوضح
السمهودي (الصف الأول) بقوله: (هذه الأسطوان بصف الأساطين
التي خلف الإمام الواقف بالمصلى الشريف)(15). وأفاد أيوب
صبري باشا بأنه قد كُتب على الأسطوانة المذكورة بخط جليّ
جميل: (هذه أسطوانة عائشة رضي الله عنها)(16). ويضيف ملا
خاطر الى ما أفاد به أيوب صبري، بأنه قد كتب لوحات من
رخام على أسطوانات: المخلقة، وعائشة، والتوبة، والسرير،
والحرس، والوفود، وقد ثبتت هذه اللوحات في مكان بارز الى
أعلى هذه الأسطوانات(17).
إذن، (تقع الأسطوانة المذكورة وسط أساطين المسجد، فبين
هذه الأسطوانة ومنبر النبي صلى الله عليه وسلم أسطوانتان،
وبينها وبين قبره صلوات الله عليه أسطوانتان أيضاً، وبينها
وبين القبلة والمحراب الفعلي أسطوانتان كذلك، وبينها وبين
صحن المسجد السابق ـ الموازي لمئذنة بلال رضي الله عنه،
الذي لم يكن مسقفاً ـ أسطوانتان. فهذه الأسطوان في الحقيقة
هي ثالث أسطوانة من كل جانب، وتجاورها أيضاً أسطوانة التوبة،
ثم أسطوانة السرير)(18).
اكتسبت اسطوانة عائشة أهميتها الدينية والتاريخية،
من كونها أول مصلى للنبي صلى الله عليه وسلم، صلى اليها
المكتوبة برهة من الوقت، بعد تحويل القبلة الى الكعبة
المشرففة، وقبل تحوّله صلى الله عليه وسلم الى المحراب
الموجود اليوم. يقول ابن زبالة: (إن النبي صلى الله عليه
وسلم صلّى إليها بضع عشرة المكتوبة، ثم تقدّم الى مصلاّه
الذي واجه المحراب في الصف الأوسط، أي الرواق الأوسط)(19).
هكذا ورد في معظم المصادر، أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، صلى اليها المكتوبة بضعة عشر يوماً؛ إلا أن غالي
الشنقيطي انفرد بتقدير هذه المدة أكثر من ذلك، حيث يقول:
(وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم مكانها مصلى بعد تحويل
القبلة مدة شهرين أو ثلاثة، ثم تحوّل الى مكان مصلاه الذي
في نهاية جدار المسجد القبلي حيث هو الآن عند الأسطوانة
المخلّقة، فأصبحت هذه الأسطوانة خلفه)(20).
كذلك تكتسب هذه الأسطوانة أهميتها مما ورد في فضلها
من الأحاديث والآثار.
روى الطبراني في (الأوسط) عن عائشة رضي الله عنها قالت:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن في مسجدي لبقعة
قبل هذه الأسطوانة، لو يعلم الناس، ما صلّوا فيها إلا
أن تطير لهم قُرعة). وعند عائشة جماعة من أبناء الصحابة،
فقالوا: يا أم المؤمنين، وأين هي؟ فاستعجمت عليهم. فمكثوا
عندها ساعة ثم خرجوا، وثبت عبدالله بن الزبير. فقالوا:
إنها ستخبره بذلك المكان، فارقبوه في المسجد حتى تنظروا
حيث يصلي. فخرج بعد ساعة فصلّى عند الأسطوانة التي صلى
اليها عامر بن عبدالله بن الزبير، فقيل لها أسطوانة القرعة(21).
وروى ابن زبالة عن اسماعيل بن عبدالله، عن أبيه، أن
عبدالله بن الزبير ومروان بن الحكم وثالثاً كان معهما،
دخلوا على عائشة رضي الله عنها، فتذاكروا المساجد، فقالت:
عائشة: (إني لأعلم سارية من سواري المسجد، لو يعلم الناس
ما في الصلاة إليها، لاضطربوا عليها بالسهمان). فخرج الرجلان
وبقي ابن الزبير عند عائشة، فقال أحدهما لصاحبه: ما تخلّف
إلا ليسألها عن السارية، ولئن سألها لتخبرنّه، ولئن أخبرته
لا يعلمنا، وإن أخبرته عمد لها إذا خرج فصلى إليها، فاجلس
بنا مكاناً نراه ولا يرانا، ففعلا. فلم ينشب ان خرج مسرعاً،
فقام الى هذه السارية، فصلى اليها متيامناً الى الشق الأيمن
منها، فعلم أنها هي، وسميت أسطوان عائشة بذلك. وبلغنا
أن الدعاء عندها مستجاب(22). قول عائشة رضي الله عنها
المذكور فيه دلالة على ما ينبغي أن تكون عليه شدة حرص
كل واحد على الصلاة في هذا المكان، لأن ضرب السهام في
القرعة لا يتأتى إلا عند التزاحم على أمر(23).
وذكر ابن زبالة أن أبا بكر وعمر والزبير بن العوام
وعامر بن عبدالله رضي الله عنهم، كانوا يصلون إليها(24).
وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تتهجد عند هذه الأسطوانة
ليلاً (25). وكان كبار الصحابة رضي الله عنهم يفضلون الصلاة
عندها، وأفاضل أبناء المهاجرين من التابعين كانوا يعتادون
الجلوس عندها، حتى قيل لمجلسهم مجلس القلادة(26).
قال ابن النجار: (أخبرني بعض أصحابنا عن زيد بن أسلم،
قال: رأيت عند تلك الأسطوانة موضع جبهة النبي صلى الله
عليه وسلم، ثم رأيت دونه موضع جبهة أبي بكر رضي الله عنه،
ثم رأيت دون موضع جبهة أبي بكر موضع جبهة عمر رضي الله
عنه. ويقال: إن الدعاء عندها مستجاب)(27).
في العهد العثماني، كسي الصف الأول من أساطين الروضة
بالخزف الأخضر، بما فيها أسطوانة عائشة، وتُوّجت أعاليها
بتيجان مختلفة التصميم، فتوجت اسطوانة عائشة بالتاج الأيوني
ذي الحلية اللولبية على شكل المحارة يحيط برأس الأسطوانة،
ووضع في اعلاها لوحة مكتوبة تبين اسمها، كما سبق.
هوامش:
1/ ابن زبالة، محمد بن الحسن، أخبار المدينة، تحقيق:
صلاح عبدالعزيز زين سلامة (المدينة المنورة: مركز بحوث
ودراسات المدينة المنورة، 2003)، 100. ابن النجار، محمد
بن محمود، الدرة الثمينة في أخبار المدينة، إعداد: حسين
محمد علي شكري (المدينة: دار المدينة المنورة، 1996)،
148. المطري، محمد بن أحمد، التعريف بما آنست الهجرة من
معالم دار الهجرة، تحقيق محمد بن عبدالمحسن الخيال (المدينة
المنورة: أسعد درابزوني الحسيني، د. ت)،34.
2/ كردي، عبيدالله محمد أمين، الكعبة المعظمة والحرمان
الشريفان عمارة وتاريخاً (الرياض: مجمموعة بن لادن السعودية،
د. ت)، 251.
3/ الخياري، أحمد بن ياسين، تاريخ معالم المدينة المنورة
قديماً وحديثاً، تحقيق عبيدالله محمد أمين كردي (المدينة
المنورة: نادي المدينة المنورة الأدبي، 1990م)، 62.
4/ ابن زبالة، 100. السمهودي، علي بن عبدالله، وفاء الوفا
بأخبار دار المصطفى، تحقيق قاسم السامرائي، جـ2 (لندن،
مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي 2001م)، 175. أيوب صبري
باشا، موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب، ترجمة
محمد حرب، جـ 3 (القاهرة: دار الآفاق العربية، 2004)،
231.
5/ ابن زبالة، 100. المطري، 34. المراغي، أبو بكر بن الحسين،
تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة، تحقيق عبدالله
بن عبدالرحيم عسيلان (المدينة المنورة: د. ن، 2002م)،
91. الفيروزآبادي، محمد بن يعقوب، المغانم المطابة في
معالم طابة، جـ1 (المدينة المنورة: مركز بحوث ودراسات
المدينة المنورة، 2002م)، 400.
6/ ابن زبالة، 101. ابن النجالر، 147. مؤلف مجهول، أحوال
الحرمين الشريفين، تحقيق مركز الدراسات والبحوث بمكتبة
نزار مصطفى الباز (الرياض: مكتبة نزار مصطفى الباز، 1997)،
94.
7/ الشنقيطي، غالي محمد الأمين، الدر الثمين في معالم
دار الرسول الأمين، ط 3 (بيروت: مؤسسة علوم القرآن، 1991م)،
44.
8/ المطري، 34. السمهودي، جـ2، 185.
9/ المطري، 34. المراغي، 91. الفيروزآبادي، جـ1، 400.
السمهودي، جـ1، 370. عبدالغني، محمد إلياس، تاريخ المسجد
النبوي الشريف، ط 4 (المدينة المنورة: مطابع الرشيد، 2000)،
125-126.
10/ ابن زبالة، 101. المطري، 34.
11/ المراغي، 91. السمهودي، جـ2، 177
12/ الحربي، إبراهيم بن إسحاق، كتاب المناسك وأماكن طرق
الحج ومعالم الجزيرة، تحقيق: حمد الجاسر، ط2 (الرياض:
دار اليمامة للبحث والترجمة، 1981م)، 405.
13/ ابن النجار، 147.
14/ الفيروزآبادي، جـ1، 400
15/ السمهودي، جـ2، 177
16/ ايوب صبري باشا، جـ3، 231. البرزنجي، جعفر بن السيد
إسماعيل، نزهة الناظرين الى مسجد سيد الأولين والآخرين
(بيروت: المكتبة العلمية، د. ت)، 59. الأنصاري، ناجي محمد
حسن، عمارة وتوسعة المسجد النبوي الشريف عبر التاريخ،
مراجعة عطية محمد سالم (المدينة: نادي المدينة المنورة
الأدبي، 1996)، 69.
17/ ملا خاطر، خليل إبراهيم، فضائل المدينة المنورة، جـ2،
(دمشق: مؤسسة علوم القرآن، 1993)، 326
18/ قائد، أصغر، تاريخ آثار مكة والمدينة، ترجمة إبراهيم
الخزرجي (قم: دار النبلاء، 1999م)، 223.
19/ ابن زبالة، 101. ابن النجار، 147. الطري، 34. المراغي،
91. الفيروزآبادي، جـ1، 400. السمهودي جـ2، 177. حافظ،
علي، فصول من تاريخ المدينة المنورة، ط 2، (جدة: شركة
المدينة المنورة للطباعة والتوزيع، 1984)، 69.
20/ الشنقيطي، 44
21/ الطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الأوسط، حديث رقم
866، تحقيق محمود الطحان، جـ1 (الرياض: مكتبة المعارف،
1985)، 475-476. الهيثمي، علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد
ومنبع الفوائد، كتاب الحج، باب أسطوانة القرآن، جـ4 (بيروت:
مكتبة المعارف 1986م) 12-13. السمهودي، جـ 2، 175-176.
الحربي، 404-405.
22/ ابن زبالة، 100. ابن النجار، 147-148. المطري، 34.
المراغي، 91. الفيروزآبادي، جـ 1، 400.
23/ عبدالله عسيلان، محقق تحقيق النصرة للمراغي، 91، هامش
رقم 2
24/ ابن زبالة، 101
25/ الخياري، 85
26/ الشنقيطي، 45
27/ ابن النجار، 147-148. المطري، 34. المراغي، 91.
|