الإقراء في الحرمين الشريفين
أحمد المغربي
الإقراء مصدر أقرأ، يُقريءُ. وهو على هذا النحو مرتبط
بجميع العلوم الإسلامية ارتباطاً وثيقاً؛ فهي مبنيّة عليه،
وبخاصة القرآن والحديث. قال ابن منظور: إذا قرأ الرجل
القرآن والحديث على الشيخ يقول: (أقرأني فلان، أي حملني
على أن اقرأ عليه)(1). ولكن إذا قيل حدّثني المحدّثون
وأهل الحديث؛ فإنه يتعلق بالحديث النبوي. أما إذا قيل:
أقرأ والمقرئ والقارئ والقراءة والإقراء، فإنها، في الغالب
الأعمّ، تتعلّق بالقرآن الكريم، وإليه ـ قبل سواه ـ ينصرف
ذهن السّامع.
ويستفاد من عدّة روايات وأحاديث نبويّة أن التعليم
هو المرادف الأكثر استعمالاً عند الكلام عن إقراء القرآن،
وهذا يتضح في الحديث: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). والإقراء
في أصله قائم على التلقين الشفوي، فقد كان الرسول صلى
الله عليه وسلم يقرئ أصحابه تلقيناً، وهذا معنى قول ابن
مسعود رضي الله عنه: (قرأتُ من في رسول الله صلى الله
عليه وسلم سبعين سورة وزيد بن ثابت له ذؤابة في الكتاب).
هناك صورة أخرى للإقراء يطلق عليها (العرض). وهي أن
يقرأ التلميذ ما سبق أن تلقّنه للتيقّن من أنه حفظه بنصه
وطريقة أدائه. وقد يكون العرض على المقرئ الذي لقّنه القرآن
أساساً، أو على مقرئ آخر سواه. والمصادر تفرق أحياناً
بين الإقراء تلقيناً، والإقراء عرضاً؛ ولكنها توهم أحياناً
بحيث تصبح العبارة (قرأ على فلان..) محتملة للتلقين وللعرض.
وهناك صورة ثالثة للإقراء، يطلق عليها (السّماع) وهي أن
يسمع التلميذُ قراءة الشيخ في أثناء صلاته، أو تلاوته
أو خلال إقرائه تلميذاً آخر؛ بحيث يعلق في ذهنه النص القرآني
وكيفية أدائه.
المقرئ
وصف الذهبي وابن الجزري كثيراً ممن ترجما لهم بالمقرئ،
مع أنهما سمّيا كتابيهما على التوالي (معرفة القرّاء الكبار)
و (غاية النهاية في طبقات القراء). وقد استعمل مصطلح (شيخ
القراء) نعتاً لمن سادهم؛ ولم يطلقوا عليه (شيخ المقرئين).
ولقب (القارئ) مرموق لمقرئ القرآن، وكان يتداوله في الحرمين
القادمون من الهند وما حولها، بحيث يشتهر صاحبه به بين
الناس، ويتقلّده أولاده وأحفاده ـ بصرف النظر عن مدلوله
ـ مثل ذريّة المقرئ عبدالله بشير (ت ـ 1337هـ/ 1918م)
الذي كان يتولى الإقراء في الصولتية والمسجد الحرام؛ وهم
يعرفون اليوم بآل القارئ.
وعليه فإن القارئ لفظ عام، والمقرئ خاص بمن يتولى الإقراء
وهو المعنيّ هنا. وكان التلاميذ في الحرمين الشريفين يخاطبون
مقرئيهم ـ في القرون الأولى ـ بكنيتهم؛ فنادوا ابن عباس
بقولهم: يا أبا العباس. ولكن الإمام نافعاً خوطب بعبارة:
يا معلّم. وكانوا الى أواسط القرن الرابع عشر الهجري/
العشرين الميلادي يقولون: (سيّدنا). أما اليوم فهم يقولون:
يا أستاذ(2)، أو (يا الشيخ) على تقدير حذف (أيّها).
المقرئ أهم مفردة في عملية الإقراء، فهو الذي يتولى
القاء النص القرآني، وكيفية أدائه شفوياً، على المتلقي؛
وهو الذي يلقنه الصواب إذا أخطأ في أثناء تكراره لما أخذه
عنه، أو في أثناء عرضه لما حفظ، وهو الذي يعرض عليه التلميذ
ما حفظه، وكان المقرئون في الحرمين يقومون بجميع هذه المهام.
والمقرئ يظهر ـ عادة ـ من حلقة شيخه؛ كأن يكون أحد
كبار تلاميذ الحلقة، ولسبب أو لآخر يكلفه شيخه بإقراء
بعضهم، إما بتأسيس حلقة جديدة تحت إشرافه؛ كما فعل الإمام
نافع المدني حين أمر تلميذه الإمام قالون (ت 220هـ/ 835م)
أن يجلس الى أسطوانة يقرئ فيها من يبعث به إليه. وإما
بأن يكون ذلك ضمن نطاق الحلقة، فقد أمر المقرئ المكي محمد
بن عبدالله بن يزيد تلميذه محمد بن عبدالرحيم الأصبهاني
في سنة 253هـ/ 867م أن يقرئ جماعة في المسجد الحرام بحضرته(3).
وكان الراجح في مثل تلك الحالة، أن يتفرغ المقرئ الشيخ
لتلاميذ المرحلة الثانية من الإقراء، وهي العرض؛ بينما
يتولى المقرئ التلميذ إقراء المبتدئين تلقيناً، أو تلقيناً
وعرضاً، في بعض الحالات. ويبدو أن بعض المقرئين في الحرمين
استمرّ في إقراء المبتدئين دون سواهم، حتى صار متخصصاً
في ذلك، مثل أحمد بن محمد الزبيدي (ت 898هـ/ 1492م) الذي
تصدّى بمكة لإقراء المبتدئين وانتفعوا به في القراءات(4).
وإذا تولى الشخص الإقراء في حياة شيخه، فقد كان ذلك
يعدّ منقبة تضاف الى سيرته العلمية. وعلى مر العصور كان
عدد من أعلام المقرئين بالحرمين قد أقرأوا في حياة شيوخهم،
ثم خلفوهم بعد الوفاة؛ منهم المدنيّون: أبو جعفر، ونافع،
وقالون. والمكيون: ابن كثير، وتلميذاه شبل ومعروف، وكذلك
قنبل، وأحمد بن محمد البزي (ت 259هـ/ 872م)، وأبو ربيعة
الربعي (ت 294هـ/ 906م).
وقد لا يبرز المقرئ الى الساحة إلا بعد وفاة شيخه؛
مثل أحمد بن عيسى بن مينا المدني الذي خلف أباه الإمام
عيسى المشهور بقالون في الإقراء بالمدينة(5). وفي الوقت
الحاضر، فإن المقرئين بالحرمين يتخرجون في معاهد علمية
متعددة.
إن غالب من تصدر للإقراء في الحرمين حتى القرن الثالث
الهجري/ التاسع الميلادي، كانوا من الموالي، ثم ظهر مقرئون
من بين الحجاج والمجاورين الذين سبق لهم التلقي أو الإقراء
في أوطانهم، وهم الأكثرية الغالبة من المقرئين في الحرمين
على مر العصور. وقد بدأ ظهورهم منذ منتصف القرن الثاني
الهجري/ الثامن الميلادي؛ منهم: أبو عبدالرحمن القصير
(ت 213هـ/ 828م) والإمام محمد بن بهرام الكازروني (توفي
القرن الخامس الهجري) وتلميذه أبو معشر الطبري ( ت 478هـ/
1085م) وزين الدين بن عيّاش (ت 853هـ/ 1449م) وأحمد الحكمي
(ت 1044هـ/ 1634م) ومحمد علي البخاري (ت 1070هـ/ 1659م)،
وعبدالله باقشير (ت 1076هـ/ 1665م) وعلي بن ابراهيم السّمنّودي
(ت 1295هـ/ 1878م).
وفي القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي، ظهر
عدد من مشاهير القراء أمثال: إبراهيم سعد (ت 1316هـ/ 1898م)
ومحفوظ الترمسي (ت 1338هـ/ 1919م)، وشيخ القراء السابق
بمكة أحمد حجازي (ت 1376هـ/ 1956م) والمقرئ أحمد حامد
التيجي (ت 1368هـ/ 1948م) وشيخا القراء السابقان بالمدينة
ياسين الخياري (ت 1344هـ/ 1925م) وحسن الشاعر (ت 1400هـ/
1979م) وكان منهم من استقرّ به المقام واستوطن الحرمين؛
ومنهم من أقرأ فيهما بصفة مؤقتة في أثناء الحج أو المجاورة.
تعدد الشيوخ
كان السائد في مقرئي الحرمين الشريفين تعدد شيوخهم
الذين أقرؤوهم. فمنهم من قرأ على أفراد ومنهم من قرأ على
جماعة؛ فقد قرأ الإمام نافع على سبعين من التابعين، وتلقى
المقرئ عبدالوهاب بن فليح (ت 250هـ/ 864م) عن أكثر من
ثمانين شخصاً من أهل مكة بصورة مختلفة. بيد أن في المراجع
عدداً من مشاهير المقرئين في الحرمين، لم يقرئهم سوى شيخ
واحد، من أشهرهم: المقرئ المكي درباس، الذي لم يقرأ سوى
على مولاه ابن عباس؛ والمقرئ حميد بن قيس، الذي لم تذكر
المراجع أنه أخذ القراءة عن غير مجاهد بن جبير؛ والإمام
عثمان بن سعيد المعروف بورش المصري، الذي لم تذكر المراجع
له شيخاً سوى نافع، ومع ذلك فقد استطاعوا أن يكونوا من
كبار المقرئين(6).
القراءة على شيخ معروف
اهتم المقرئون منذ القدم بالمؤهل المكتوب (الإجازة).
ولعلّ خبر أقدم إجازة مكتوبة في الإقراء، صدرت عن الحرمين
كانت من المقرئ قنبل المكي؛ فإن أحدهم ممن حل بأنطاكية
لم يعر اهتماماً للمقرئ ابراهيم بن عبدالرزاق الأنطاكي
إلا بعد أن قرأ رقعة بخط قنبل (ت 291هـ/ 903م) تثبت قراءة
ابن عبدالرزاق عليه(7). وقد حافظت الإجازة عموماً ولقرون
طويلة على هيبتها شهادة علمية ذات قيمة، إلا أن بعضاً
ممن أقرأ بالحرمين لم يعرف لهم شيوخ ذوو مكانة، ولكنهم
كانوا قليلاً، كما أن بعض من وردت أسماؤهم في سلاسل بعض
(الإجازات) لم يمارس الإقراء(8).
لم تقتصر (الإجازات) التي تمنح للمقرئين على إثبات
تلقيهم القرآن شفاهاً من شيوخهم فحسب، بل تطور الأمر الى
قراءة المؤلفات التي كتبت عن القراءات إما على مؤلفيها
أو على من قرأها على مؤلفيها. وقد سمح قنبل لأحد التلاميذ
أن يقرأ عليه كتابه الذي ألفه عن قراءة المكيين، بالرغم
من أنه ترك الإقراء لكبر سنه. وجمع أبو الحسن الحلواني
(ت 250هـ/ 864م) طريقة قالون في القراءة، ثم عرض ما كتب
على قالون نفسه، ليكسب جهده قيمة إضافية. وقرئ في الحرم
المكي ولسنوات طويلة (كتاب القراءات) للقاسم بن سلام (ت
224هـ/ 838م) وكتاب (التلخيص في القراءات الثماني) لأبي
معشر الطبري.
هوامش
(1) ابن منظور، لسان العرب، ج1، بيروت د.ت، مادة 130.
(2) البخاري، حديث رقم 4682؛ والذهبي، معرفة القراء
الكبار على الطبقات والإعصار، ج1، بيروت 1404هـ، ص155.
ومحمد علي مغربي، ملامح الحياة الإجتماعية في الحجاز في
القرن الرابع عشر للهجرة، جدة 1982، ص123، حيث استعمل
الكاتب كلمة استاذ بين القراء منذ القرن الثاني للهجرة
في غير الحرمين.
(3) محمد ابن الجزري، غاية النهاية، ج1، ص 615، وج2،
ص 188.
(4) محمد السخاوي، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع،
جـ2، بيروت د.ت، ص 208.
(5) ابن الجزري، ج1، ص94.
(6) والإشارة الى ورش استثنائية؛ فهو لم يقرئ في الحرمين،
ولكنه تلقى عن نافع المدني.
(7) عمر ابن عبدالعديم، بغية الطلب في تاريخ حلب، ج2،
بيروت د. ت، ص 977.
(8) عبدالرحيم السيد، الحلقات المضيئات من سلسلة أسانيد
القراءات، السعودية 1422هـ، ج1، ص 94، 12،137.
|