دولة العرّاب

وقعنا في حيرة لاختيار الشخصية الأقرب لولي العهد، محمد بن سلمان. في البداية كنا نعتقد بأنه أقرب الى شخصية روبن هود الشخصية الفولوكلورية في التراث الانلجيزي، والتي تمثل الفارس الشجاع، وفي الوقت نفسه، الطائش والخارج عن القانون. وقد عاش روبن هود في العصور الوسطى، وأصبح نموذجاً في العصر الحديث للشخص الذي يقوم بسلب وسرقة أموال الأغنياء من أجل إطعام الفقراء.

ولكننا توقفنا طويلاً عند الشطر الثاني، أي إطعام الفقراء، فالرجل، أي ابن سلمان، يقوم بسلب أموال الأغنياء، وهو يفعل ذلك تحت غطاء القوة، والدين، والدعم الخارجي، ولكن لم يثبت لدينا حتى الآن أنه يفعل ذلك لحل مشكلة الفقر أو إطعام الفقراء ومعالجة أزمات البطالة، والسكن، والخدمات... وعليه، صرفنا النظر عن شخصية روبن هود التي ليس فيها كل أوجه الشبه مع إبن سلمان.

وبعد البحث والتأمل، تذكّرنا قصة العرّاب، وعصابات المافيا من إيطاليا الى أمريكا والنزاع الدموي الذي كان يدور فيها.

في ثلاثية فيلم (العرّاب)، تخلّص مايكل كورليوني من خصومه كافة في ضربة واحدة، وأزاحهم عن طريقه، فتفرّد بالعائلة وبات هو كبيرها بعد إضعاف كل مراكز القوة فيها، وخصوصاً بعد وفاة والده، فيتو كورليوني، مؤسس عائلة كورليوني، أكبر عائلات المافيا في أمريكا، والذي لم يكن يرغب في أن يخلي موقعه (الدون) لأحد لا يرتضيه، ولكن الموت عاجله.

ما يكل كورليوني أتقن مكائد والده، وأصبح وريثاً فعلياً لسيرته، وقرّر أن يصفّي خصومه، وكان يقول: “هناك شيء تعلمته من أبي: هو محاولة التفكير مثلما يفكر الأشخاص الذين يحيطون بي، إنطلاقاً من هنا، كل شيء ممكن». هو يريد القول بأن ما أقوم به سوف يقوم به كل من يحيط بي، ولذلك أنا استبقهم حتى لا أكون في المكان الذي يدفع الثمن.

هنا وجدنا بأن صراع الأخوة أو أفراد العائلة بدمويته البشعة ينطبق على ما يقوم به محمد بن سلمان مع أمراء آل سعود، من كل الاجنحة. هو لا يكتفي بمصادرة الأموال، برغم من حاجتها إليها، ولكن هو يريد تجريد هؤلاء من مصادر القوة التي قد تهدده في المستقبل، وعليه يطيح بهم جميعاً كي يحرمهم من المنافسة على السلطة.

كان يكتفي في السنتين الماضيتين بتوجيه ضربات انتقائية وموجّهة لمن يقف في طريقه الى العرش، مثل مقرن بن عبد العزيز، ومحمد بن نايف، وأخيراً متعب بن عبد الله. وكانت تلك الضربات بمثابة «بالون اختبار» لناحية التخطيط لما هو أكبر، وحين لم تصدر ردود فعل تبعث على القلق، واطمأن الى أن ما يقوم به مأمون العواقب، قرر الانتقال الى مرحلة «التصفيات الجماعية» بالمعنى السياسي. ولذلك، فإن إعفاء متعب بن عبد الله من وزارة الحرس الوطني واعتقاله على الفور تحت طائلة التحقيق في ملفات الفساد، كان يرمز الى تطوّر جديد، أو بالأحرى الى فصل آخر وأخير من مخطط تصفية الخصوم وإبعادهم بصورة كاملة عن طريقه. في الرابع من نوفمبر لم يكن يوماً عادياً يتم فيه اعفاء أو حتى توقيف شخصيات على ذمة التحقيق، هي كانت بمثابة «محاكمات ميدانية» في أنظمة بوليسية عسكرية، تتطلع الى إنهاء ملف في سرعة قياسية.

محمد بن سلمان المهووس برؤيته الاقتصادية، على استعداد أن يصادر كل أموال البلد، وأن يغوص في جيوب المواطنين من أجل أن يتحوّل الى صانع المعاجز، ولكن بعضلاته ومن أموال غيره.

توسّل إبن سلمان بأدبيات درج طلاّب النزاهة على استخدامها من قبيل «من أين لك هذا؟»، و»القانون فوق الجميع»، وأضاف المطبّلون اليها شعارات أخرى من قبيل «كائناً من كان»، يذكّرنا بذلك بشعار محمد بن نايف، ولي العهد ووزير الداخلية المغدور به في ليلة فارقة.

يلعب ابن سلمان دور العرّاب، بتصفيته منافسيه داخل العائلة المالكة، ويلاحق من كانوا بالأمس قاب قوسين أو أدنى من العرش. لم يتوقّع أي منهم أن يكون صيداً سهلاً، وأن لعبة النهب والسلب التي يشارك فيها الجميع، بمن فيهم سلمان وإبنه، كان مقدّراً لها أن تتواصل، لولا أن أحد اللاعبين قرّر استعمال كل أدوات القوة من أجل الانقلاب على شركائه في النهب والسلب. ومن بين تلك الأدوات، الأمر الملكي الذي أصدره والده سلمان بـ «تشكيل لجنة عليا برئاسة ولي العهد لحصر الجرائم والمخالفات لقضايا الفساد العام».

لم ينقص محمد بن سلمان سوى هذه اللجنة كي يضع يده على الأموال المنقولة وغير المنقولة للأمراء المنافسين له.

لجنة لم تعقد أي جلسة، برغم من أنها تتألف من رئيس هيئة التحقيق والإدعاء العام، ورئيس جهاز أمن الدولة، ورئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ورئيس ديوان المراقبة العامة، والنائب العام، ورئيس أمن الدولة.

قرار اعتقال الأمراء والوزراء ونوابهم والتجّار صدر قبل الاعلان عن تشكيل اللجنة، وإنه جاء لإضفاء صبغة قانونية على حملة الاعتقالات.

ما يعنينا في الأمر كله، هو تعيين محمد بن سلمان رئيساً للجنة، في سياق مراكمة للسلطات والصلاحيات، حيث يجري اختزال الدولة في شخصه، وتكاد تجعل منه إلهاً بيده كل شيء، وهو مالك الملك، مسيّر الفلك، فالق الإصباح، ديّان الدين، واعوذ بالله من سلمان وإبنه الشيطان الرجيم.

الصفحة السابقة