الحوار الوطني بين جدة والرياض

إختبار لجديّة الحكومة أم تمويه على النخب؟

انفجارات الرياض فتحت أُفقاً جديداً للحوار الداخلي. وإذا ما استمر العنف كما نشهده بشكل شبه يومي في مدن المملكة، فإن الحكومة السعودية ستجد صعوبة بالغة في الحفاظ على الوضع أمنياً وسياسياً بدون المضي في الإصلاحات. بين النخب المثقفة في المملكة، هناك من رأى أن العنف أوضح للأمراء الكبار بأن لا حلّ أمامهم دون المضي في الإصلاح السياسي، وكأنهم أرادوا القول بأن المزيد من العنف سيقنع الأمراء بأن الحلول الأمنية والهروب الى الأمام بتجميد الأوضاع على ما هي عليه، لن يكون حلاّ.

ويعتقد عدد من المثقفين السعوديين الإصلاحيين، بأن انفجارات الرياض الأخيرة قد خفّفت من حدّة الضغوط الأميركية على الحكومة السعودية، على الصعيد السياسي، وإن كانت الولايات المتحدة لاتزال تمارس ضغوطاً مختلفة لتقليم أظافر المؤسسة الدينية، والشروع بنوع (بدائي) في الإصلاحات تمتص الفائض الكبير من الإحتقان الشعبي على نظام الحكم وعلى الولايات المتحدة والغرب أيضاً. وبنظر المراقبين، فإن الحكومة السعودية استجابت على استحياء وبخطوات مترددة وبطيئة للمطالب الأميركية، وهي تحاول إقناع الإدارة في واشنطن بأن تمنحها وقتاً كافياً لمراجعة وضعها الداخلي، وإجراء التغييرات المطلوبة بشكل تدريجي قد يمتدّ لسنوات طويلة قادمة قد تصل الى عقدين!

في داخل الإدارة الأميركية، يرى فريق الحمائم الذي تبدو وجهة نظره غالبة في الوقت الحالي والذي تمثله الخارجية الأميركية والسي آي أيه، يرى أن الإدارة الأميركية منشغلة بملفات أخرى في العراق وجيران العراق: إيران وسوريا، إضافة الى الموضوع الفلسطيني. وهذا الفريق الحمائمي يعتقد بأن السعودية هدفٌ مؤجّل أو غير ملحّ، خاصة وأن الحكومة السعودية أبدت استعدادها للتعاون في مكافحة الإرهاب (السعودي) داخلياً وخارجياً، وهي تقوم ـ حسب هذا الفريق ـ بما عليها أن تقوم به، وهناك تحسّن في الأداء السعودي في هذا الإتجاه. يضاف الى ذلك، فإن الحمائم يعتقدون، بأن السعودية لاتزال مفيدة في دعم الإستقرار في المنطقة، وخاصة في الضغط على الجانب الفلسطيني من أجل تمضية (خارطة الطريق).

الفريق الآخر، وهو فريق الصقور اليمني المتصهين، وهو أشدّ الداعين لمعاقبة السعوديين وتقسيم مملكتهم، والتدخّل الفظّ في شؤونهم، ولكن هؤلاء مشغولون الآن بإدارة الوضع في العراق ـ حيث تغلبت هناك وجهات نظرهم ـ مع أنهم لم يتنازلوا كثيراً في مواقفهم ولكنها لم تكتسب قوّة الدفع اللازمة لإمضائها ضمن موازين القوى في الإدارة الأميركية.

ضمن سياق سياسة (الإرضاء) للولايات المتحدة، جاءت الإعتقالات ومحاولة تغيير المناهج، والزعم بـ (إعادة تأهيل) الدعاة، وإقالة المتشددين منهم، مع مبالغة في الأرقام وتضخيم مفتعل للإنجاز على طريق مكافحة الإرهاب. كما يأتي في السياق نفسه، ما عُرف بإسم (الحوار الفكري) في الرياض الشهر الماضي بين مختلف المذاهب الإسلامية في المملكة، وما تلاه من (حوار سياسي) جزئي اتخذ من مدينة جدّة منطلقاً له.

حوار جدّة

فقد دعا الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز، نحو 150 شخصية من نخبة الحجاز السياسية والثقافية والإصلاحية وكذلك رؤساء تحرير بعض الصحف المحلية، لاجتماع في قصره تحت مسمّى الحوار الوطني. وقد أراد الأمير ومن خلفه رجال العائلة المالكة الكبار من ذلك الحوار مناقشة الموضوع من الصفر. أي أهمية الحوار وأسسه!! وهي من الأمور اللازمة والمعروفة والتي لا تحتاج الى نقاش في الأصل. ويبدو أن الأمراء أرادوا التدرّج بالنخبة الحجازية ومعرفة رأيها دون الإقتراب الى المواضيع الحسّاسة والمطالب المعروفة والمنشورة والتي تعبر عن إجماع وطني عام.

ولكن النخب الحجازية فيما وضح بعدئذ، بدأت بالسقف وأخذت الموضوع من (آخره) أي أن المثقفين تحدثوا حول ما هو مطلوب من الإصلاح، وفي أي المجالات تشمل، ونجحوا في تجاوز الشكليات والإجرائيات التي تجعل من الحوار تنظيراً فكرياً لا يحمل أيّ بعدٍ سياسي.

حضر الإجتماع الذي استغرق نحو ثلاث ساعات، الدكتور الشيخ صالح بن حميد رئيس مجلس الشورى الذي تحدث بعد أن افتتح الأمير اللقاء بأن أكد على أهمية قبول الإختلاف في الرأي، وفضائل تعدده بعيداً عن التشدّد والتطرّف. بعدها تحدث بعض الأفراد في مواضيع باردة، قيل أنها جاءت بإيحاء من الأمير عبد المجيد نفسه، أو لطبيعة المتحدثين المحافظة. ولكن الجو مسّته السخونة بعد حديث الدكتور فايز جمال، الذي أكّد على أن المواطنين يريدون إنتخابات مباشرة لمجلس الشورى ضمن عملية إصلاح شاملة، وانتقد من يقول بأن الشعب غير مهيئ أو أنه بحاجة الى زمن طويل تدريجي، وضرب مثلاً بأن الحجاز شهد انتخابات قبل نحو ثمانين عاماً، وكانت تتواجد به نقابات متعددة، وأنظمة متطورة، فكيف يعود الناس الى نقطة الصفر من جديد، وكأنهم لم يجرّبوا شيئاً من قبل؟.

أما رجاء احمد جمال فتوسع في شرح مدلول الانتخابات، وتطرق الى الاصلاحات وقال انها متأخرة ويجب أن يشرع بها بسرعة لمواجهة العنف، كما يجب ان تكون حقيقية وليست شكلية. بعدئذ تحدّث أحد الحاضرين في موضوع جزئي فهاجم ما أسماه البنوك الربوية وعدم توفر البنوك الإسلامية، فرد عليه الكاتب حسين شبكشي معلقا بأنه اذا كان الأمر كذلك، فيجب إحالة وزير المالية (العساف) الى القضاء لمحاكمته باعتباره من يقر هذا الربا والبنوك التي تتعامل به!

متحدّث آخر، قال بإن إصلاح البلاد لن يكون بدون إصلاح العائلة المالكة، وخاطب الحاضرين بأن عليهم (غربلة) العائلة المالكة فبدون إصلاحها ووقف تجاوزات بعض أفرادها، لن يكون هناك من إصلاح. المتحدث هذا كان التاجر الحجازي المعروف إبراهيم الأفندي، الذي شدّد على إبعاد عدد من الأمراء غير الأكفاء عن مناصب الدولة العليا. وقال أحد المشاركين، بأن ما قاله الأفندي كان تجاوزاً للخطوط الرسمية، وأن الأمير عبد المجيد لم يسعه والحال تلك إلاّ افتعال بسمة باردة على شفتيه.

عبد الله صادق دحلان، كان أحد الحضور، وقد كتب مقالاً عن جلسة الحوار تحت عنوان (حوار الوطن في بيت الأمير) أشار فيه الى أنه ليس من (من رواد مجالس الملوك أو الأمراء) وأضاف (بإن مبادرة ولي العهد خلال السنة الماضية والحالية في فتح حوار ديمقراطي مع فئات مختلفة من شرائح المجتمع كانت بمثابة نقطة تحول في تاريخ الديمقراطية في بلادنا). وكانت الخطوة الأولى للحوار في قصر أمير منطقة مكة، كما يقول دحلان، وأضاف بأنه كانت هناك خشية من المشاركة في الحوار بالحديث والحثّ على الإستماع دون القول فـ (قد يكون الغرض من الجلسة معرفة آراء بعض من المتحمسين للحوار والديمقراطية أمثالي ثم تسجيل المواقف ضدهم). ومع هذا كانت مقترحاته مجملة في نقاط من بينها: (إن أساس الحوار الديمقراطي ينبغي أن يكون من خلال مؤسسات المجتمع المدني باعتبارها الممثل الرسمي لفئات المجتمع بتخصصاته). و (إن أساس الديمقراطية هو التمثيل الشعبي في إبداء الرأي، وأساس التمثيل الشعبي يأتي من قبل ممثلي الشعب في البرلمان أو مجلس الشورى أو مجالس المناطق، وشرعية ممثلي الشعب تأتي من خلال (الانتخاب) ولهذا فإنني أتمنى على قيادة المملكة أن تضع خطة مستقبلية قصيرة المدى لتحقيق هذا التوجه الانتخابي ولو تدريجيا). واقترح دحلان على القيادة السعودية أن تشكل لجنة أهلية لحقوق الإنسان تكون منتخبة (وليس من خلال قرار حكومي) إضافة الى معالجة ظاهرة الفقر خشية على الأمن ووحدة البلاد.

تجدر الإشارة الى أن الحديث عن اللقاء الحواري لم يُنشر إلاّ متأخراً في الصحافة المحلية، وقيل أن هناك تعليمات بهذا الشأن، تمّ رفعها فيما بعد، بعد أن تسرّبت أخبار اللقاء الى الجمهور والصحافة الأجنبية.

أهداف اللقاءات الحواريّة

يمكن النظر الى حواري الرياض وجدة من زاويتين مختلفتين. فالأول رغم أنه حمل مضموناً سياسياً إلا أنه كان ذا طابع فكري، أما حوار جدّة فقد كان حواراً سياسياً في الصميم. والسؤال: لماذا لم يعقد حوار وطني شامل في العاصمة الرياض؟ ولماذا لم يقم أمراء آخرون في المناطق الأخرى: الشرقية والجنوبية والشمالية بحوار مماثل لما جرى جدّة؟ ثم ما لذي تريد العائلة المالكة أن تصل إليه من هكذا حوارات؟

يقول البعض أن الهدف هو التعرّف على رأي المواطنين ونخبهم فيما يتعلق بمدى رغبتهم في الإصلاحات وطرق تحقيقها. ولكن هذا الهدف الإفتراضي يبدو ضعيفاً، فالنخب في المملكة عموماً عبرت عن آراء صريحة بهذا الشأن من خلال العرائض (خاصة وثيقة الرؤية) ومن خلال الكتابات والمقابلات الصحافية والتلفازية. بمعنى أن ما يريده المواطن وما تريده النخب معروف ومعلوم مسبقاً، ولا يحتاج الى سبر. أما إذا كان الغرض البحث في مسارات الإصلاح، فعادة الأمراء أنهم لا يشاورون، كما أن هذه الحوارات لم تتضمن أياً منها. فهي لم تنتقل الى التفصيل، لأن الأصل: وهو قبول العائلة المالكة بالإصلاح لم يُعلن حتى الآن، ولم يقرّ تحقيقه بفترة زمنية قادمة. فضلاً عن أن الأمراء لا يناقشون التفاصيل لا مع العامّة ولا حتى مع الوزراء!

موقف الأمراء المتشدد من الإصلاحات خاصة وزير الداخلية يدفع البعض الى اعتبار الحوارات مجرد أداة لتسكين الشارع العام كيما تموّه عليه وعلى الجهات الأجنبية التي تدفع بهذا الإتجاه، ريثما تتمكن العائلة من معالجة ظاهرة العنف الداخلي، وإذا ما نجحت فإنها ستقلب ظهر المجن، وقد تقوم باعتقال العديد من الشخصيات الوطنية الإصلاحية، وتمنعها من الحركة وتضيّق عليها بأكثر مما تفعل الآن. أي أنها قد تقوم بانتقام ضدّ من ترى أنهم تجاوزوا أو تعدّوا على هيبة الأمراء!

هذا هو الظاهر من الحوارات: مجرد تنفيس وكسب الوقت. ولكن المراهنة على إنهاء العنف بعنف مضاد بدون إصلاحات حقيقية لن يتم. ونحن مقتنعون بأن الأمراء لن يجدوا منفذاً هذه المرّة، سوى استمرار للعنف، وجذوة الإصلاح ستبقى قائمة الى أن تتحقق أو يرحل الأمراء كلياً عن كراسيهم وملكهم.

• العنف والإصلاح