النجاة من الحرب الطائفية في العراق
السعودية تتنصل من بيان الـ 26
فجّر بيان الـ 26 عالماً سلفياً من الطبقة الثانية
في النظام التراتبي الديني الوهابي أزمة داخلية، حيث استشعرت
المؤسستان السياسية والدينية بأن ثمة تقويضاً للسيادة
بشقيها الدولتي والديني قد تم على أيدي مجموعة الموقّعين
على بيان موجّه للشعب العراقي والذي تجاوز فيه حد التدخل
المباشر في شؤون دولة اخرى الى اختطاف موقف المؤسستين
السياسية والدينية في السعودية. لقد ثبّت البيان حقيقة
الدور المباشر الذي تلعبه السعودية في عمليات العنف التي
تجري في العراق منذ سقوط نظام صدام حسين، وبهذا البيان
يصبح الامر أكبر من كونه مرتبطاً بمجموعة مقاتلين سعوديين
تسللوا عبر الحدود الشمالية الى داخل العراق للانضمام
الى صفوف المقاومة في الفلوجة او بغداد او الموصل او غيرها
او الانخراط في العمليات الانتحارية التي تقوم بها المجموعات
المسلّحة داخل العراق، فالبيان بتوجيهاته المباشرة يعكس
حقيقة واضحة وهي أن السعودية باتت طرفاً رئيسياً في عمليات
ما يسمى بالمقاومة والتي حصدت عشرات الضحايا في شوارع
ومدن العراق.
لقد نبّه صدور البيان بلغته الطافحة بالتحريض على القتال
الى خطورة التورط السعودي في شؤون العراق، سيما بعد بوادر
تصدّع الجماعات المسلّحة وسقوط الفلوجة تحت ضراوة نيران
الاسلحة الاميركية والعراقية التي تعكس الاصرار على القضاء
على هذه الجماعات، التي باتت مسؤولة بصورة مباشرة عن اضطراب
الامن وسقوط العشرات من الضحايا دون تمييز في مدن العراق.
وفي محاولة لاستدراك التداعيات الخطيرة لبيان الـ 26،
قررت الحكومة السعودية بذل كل جهد لاحتواء أزمة مستقبلية
مع الحكومة العراقية القادمة من خلال تبرئة ساحتها من
مجريات الاحداث في العراق. كما سعت الحكومة الى تأكيد
روابطها التاريخها مع الشعب دفعاً لتهمة التورط في حرب
طائفية تقودها الرياض في العراق. وبحسب كاتب في موقع ايلاف
الالكتروني فإن (السياسة السعودية نجحت تاريخياً إلى حد
كبير فى خلق امتداد مع الفئات الشيعية العراقية التي تنتمي
إلى قبائل عربية كبرى ـ شمر وعنزة والرولة مثلاً ـ وكذلك
بعض تيارات المجتمع المدني العراقي، حيث أن الرئيس العراقي
المؤقت المهندس الشيخ غازي بن عجيل الياور ينتمي إلى قبيلة
شمر التاريخية المنتمية إلى ذلك المثلث القبلي الكبير،
وكذلك وزير الدفاع حازم الشعلان، ورجالات كبار في العهد
الجديد).
بل بالغ أحد الكتّاب المحسوبين على الحكومة في تصوير
الحياد السعودي في المسألة العراقية من خلال التأكيد على
الحقائق الاجتماعية والتاريخية، وتأكيد دور الشيعة في
تاريخ العراق الحديث. وقد عدّ الكاتب بيان الـ 26 بأنه
من الناحية السياسية والجيوبوليتيكية (في غاية الضعف)
وحذّر من أن دعم المقاومة (سينتهي بالوضع العراقي إلى
حرب أهلية على أسس طائفية أو قومية، مما سيعطي الفرصة
سانحة لدول الجوار ـ إيران أو تركيا مثلاً ـ إلى التدخل،
ويتكرس بذلك كنتيجة خطر التقسيم). وهذا التحليل يلتقي
مع بعض التصورات السائدة لدى الشيعة العراقيين الذين يتملّكهم
الغضب الشديد من الدور الايراني في العراق، حيث يحتفظ
المسؤولون العراقيون بوثائق تثبت تورط الايرانيين في دعم
مجموعات المقاومة جنباً الى جنب المجموعات المحسوبة على
تيار مقتدى الصدر.
ومع أن هذا التحليل يحاول نقل القضية من اطارها الطائفي
الى اطار قومي في مسعى لتحييد رد الفعل الشيعي العراقي،
وفي الوقت نفسه استثماره في معركة قومية تكون بين العرب
جميعاً بما فيهم الشيعة العراقيين من جهة وايران وتركيا
من جهة ثانية، الا أنه يمثل أحد المخارج السهلة بالنسبة
للسعودية التي باتت في قلب المعركة الطائفية التي بدأت
بوادرها تبرز في العراق والتي يخشى ان تمتد الى خارج حدوده.
يحاول كاتب المقال في موقع ايلاف والتي باتت تجتهد
في تقديم وجهة نظر مقبولة ومبررة للسعودية، التنبيه الى
الوجه الآخر من المعركة الطائفية في العراق ومن هو الخاسر
الأكبر فيها. يقول الكاتب (ولا أحتاج إلى دليلٍ لإثبات
أن الخاسر الأول في حالة التقسيم هم الطائفة السنية العربية
تحديداً، والتي جاء البيان أساساً لدعمها. حيث أن مناطقهم
ـ الوسط ـ هي المناطق الأفقر من ناحية الثروات البترولية
على وجه التحديد، من الجنوب الشيعي أو الشمال الكردي).
ولهذا السبب، على حد قول الكاتب (هذا بيان متهافت سياسياً
بصراحة). كما يلفت الكاتب أيضا الى (أن كثيراً من الأسماء
التي وقعت البيان ذوو مواقف متطرفة تجاه الشيعة، مما يؤكد
أن البيان لم يُدرس جيداً حتى من الناحية التاريخية فضلاً
عن الناحية السياسية، فجاء متناقضاً مع مواقفهم العقدية
التي يُجاهرون بها علناً).
من جهة ثانية، جاء الرد الرسمي السعودي على البيان
بهدف اعادة مركزة المرجعية الدينية الرسمية التي وجدت
نفسها في هامش الفعل السياسي اليومي، وخارج السيطرة على
تقرير الموقف الديني، وهو ما أثار حفيظة علماء المؤسسة
الدينية الرسمية الذين شعروا بخسارة سيادتهم الدينية على
المجتمع الوهابي، كيف وان بيان الـ 26 حظي بتأييد ودعم
قطاع كبير من الشباب السلفيين وافراد المقاومة في العراق.
وكان المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ قد صرّح لصحيفة
(عكاظ) الصادرة في جدة بأن الذهاب إلى العراق ليس سبيلاً
لمصلحة، لأنه ليس هناك راية يقاتلون تحتها، ولا أرضية
يقفون عليها، والذهاب إلى هناك من باب التهلكة وهو ما
لا يصلح.
وأبان المفتي عدم مشروعية وجواز تحريض الشباب والتغرير
بصغار السن للسفر للعراق وقال: (هذا لا يجوز لأنه يوقعهم
في أمور هم لا يتصورون حقيقة ما يذهبون إليه. واضاف قائلاً:
على أولياء الأمور منع أبنائهم من الذهاب إلى العراق فلا
مصلحة من ذلك وعليهم المحافظة على أبنائهم من مغبة الانزلاق
في هذا ولأن هناك أموراً لا يفهمون حقيقتها ولا يدركونها..
لذلك فمن باب أولى عدم سفر الشباب إلى العراق).
كما تم اشراك بعض المنتمين الى الطبقة الثانية في التيار
الديني السلفي ومن لدّات الموقّعين على البيان المومىء
اليه، ولعل أبرز المواقف صدرت عن الداعية السلفي الدكتور
عائض القرني والذي أكد بأن بعض الدعاة في المملكة لا يدركون
حقيقة ما يجري على ارض الواقع في العراق من قتال وخلافه.
ونقلت (عكاظ) عنه قوله (إن تسجيل المواقف، وإرسالها لقنوات
فضائية مثل ـ الجزيرة ـ لا يكفي للجهاد كتسجيل موقف، ذلك
أن تسجيل المواقف ليس لها أصل في الكتاب والسنة). ولفت
الشيخ القرني إلى (أن تحريض الشباب وحثهم للذهاب إلى العراق
وغيرها قد يورث فتناً وعواقب وخيمة ندفع ثمنها في المستقبل)
ولم يستبعد أن يكون لهؤلاء المحرضين توجهات أو مطامع أو
غايات الله اعلم بها.
وكما يظهر فإن الحكومة وبدفع من علماء المؤسسة الدينية
حفّزت بعض الخطباء على نقد بيان الـ 26، والتحذير من التورط
في عمليات عسكرية داخل العراق تحت مسمى مجاهدة المشركين
وأهل الضلال، ودعا عدد من خطباء المساجد وأئمة الجمع الشباب
الى عدم الانزلاق والتهور في الاقدام على أعمال تضرّ أسرهم
ووطنهم.
إن هذا التجاوز الخطير لسيادة وسلطة المؤسسة الدينية
هو ما يدفع برجالها الكبار الى الالتحام مع الدولة في
مواجهة تيار الـ 26 المنفلت من زمام الدولة، والذي قد
يواجه ضربة في مرحلة لاحقة في عملية تفتيت هادئة كالتي
جرت له في التسعينيات، حيث تم تصديع قواعد التيار السلفي
الناشط سياسياً، وحرمانه من ممارسة نشاطه الدعوي، وقد
تلاحق الموقعين على البيان تهمة (التحريض على الارهاب).
ولاشك أن قائمة التهديدات التي وصلت الى الموقّعين تتضمن
عقوبات كثيرة من بينها حرمان افرادها من السفر او الدخول
الى بعض الدول تحت طائلة نشر الفكر الارهابي.
ولعل الاهم في رد الفعل الرسمي السعودي هو بياني سفير
السعودية في كل من واشنطن ولندن الامير تركي الفيصل والامير
بندر بن سلطان بإسم الحكومة السعودية حيث نفيا في العاشر
من نوفمبر أن يكون الـ 26 يمثّلون موقف المملكة او هيئة
كبار العلماء. وبحسب البيان فإن الـ 26 (لا يمثّلون سوى
أنفسهم فقط وهو رأي مخالف لموقف المملكة التي تريد الاستقرار
والسلام للمنطقة وللعراق بصفة خاصة). وقد جاء بيان الاميرين
بعد موجة انتقادات واسعة في وسائل الاعلام الغربية لموقف
السعودية من مجاهديها الذين يتسللون الى داخل العراق عبر
الحدود الشمالية والذين حصلوا على تسهيلات من قبل أجهزة
الامن السعودية، وقد تم القاء القبض على عدد منهم في أحداث
الفلوجة وفي مناطق أخرى من العراق. وكانت بعض الصحف الاميركية
والبريطانية قد وجّهت اصابع الاتهام الى دور الامير نايف
وزير الداخلية وابنه مع بعض المشايخ الموقّعين على بيان
الـ 26 في تحريض بعض العناصر المسلّحة التي تنتمي الى
تنظيم القاعدة في السعودية لنقل عملياتها الجهادية الى
داخل العراق، وتجنيب السعودية أعمال العنف التي شهدتها
خلال السنتين الماضيتين. وقد جاء بيان الاميرين لنفي هذه
التهمة من خلال إعادة تعريف مفهوم الجهاد حيث اعتبر الامير
تركي الفيصل سفير السعودية في لندن (أن الجهاد الحقيقي
هو مساعدة شعب العراق في العودة لبناء دولته).
|