هل حقاً هكذا تورد الإبل؟
مصير المتطرفين أم الفكر المتطرف
تنبّه الأمراء الكبار بعد لأي وطول أناة الى أن معالجة
ظاهرة العنف لا تتم بالقوة المجرّدة، وإن كانت مطلوبة
في بعض حالاتها، وأن ثمة ضرورة ملحّة لادخال عامل الفكر
من أجل تغيير القناعات الايديولوجية المحرّضة على اقتراف
أعمال عنفية. بلا شك، كان إستعمال عنصر الفكر مدخلاً صحيحاً
لمعالجة الظاهرة العنفية، بل ولأشكال التطرف عموماً وتمظهراتها
الاجتماعية والسياسية والثقافية. ما يفوت الأمراء الآن،
كما فاتهم من قبل، أن المعالجة الفكرية لا تبدأ من رصد
المصابين بأفكار متطرفة، فيصبحوا مؤهلين نفسياً وذهنياً
وفي كامل إستعدادهم الايديولوجي للانخراط في جماعات وأعمال
عنفية. ولذلك نجد، ما إن تفنى أو تطوّق دفعة من المتطرفين
حتى تنشق الارض عن دفعة أخرى، وما إن تشاع أجواء من الاطمئنان،
حتى يحرق العنف الستار الحريري الذي ما يفتأ يتمزق مرات
ومرات.
قبل عملية بقيق بفترة وجيزة، كان مصدر رسمي أعلن أن
لجنة المناصحة التي شكّلتها وزارة الداخلية بالتعاون مع
عدد من المشايخ السلفيين (وبعضهم من التكفيريين) لاقناع
الذين يحملون أفكاراً متطرفة نجحت في إقناع 400 شخص، وهم
يمثّلون حسب المصدر حوالي 90 بالمئة من المتطرفين، بالتخلي
عن الأفكار المتطرفة والعودة الى جادة الصواب.
ويقول الدكتور محمد بن يحي النجيمي، أستاذ الفقه المقارن
في معهد القضاء الاعلى، ورئيس الدراسات الامنية في كلية
الملك فهد الأمنية وعضو لجنة المناصحة في تصريح خاص لصحيفة
المدينة في التاسع عشر من فبراير 2006 بأن من تبقى من
المتطرفين في السجن هم بضع مئات وأن من تم إقناعهم خرجوا
من السجون في شهري سبتمبر ونوفمبر الماضيين. ونفى النجيمي
أن تكون اللجنة واجهت صعوبات في إقناع معتنقي هذه الأفكار.
ومن اللافت في تصريح النجيمي، أن 90 بالمئة من الذين تم
إستبدال قناعاتهم لم تكن لديهم (سوى بعض الشبهات البسيطة
بسبب تعليمهم البسيط، وهؤلاء يسألون بعض الأسئلة التي
تحتاج إلى إجابة). وان هناك فقط مانسبته 2 بالمئة ممن
عجزت اللجنة حتى وقت تصريح النجيمي عن إقناعتهم بوصفهم
منظّرين، وأن جميع من خرج سواء من العاديين أو المنظّرين
إندمجوا في المجتمع.
بل يزيد النجيمي على ذلك بأن الشباب الذين تم الافراج
عنهم (تراجعوا عن الفكر المتطرف بعد أن انكشف لهم الأمر
وندموا على ما حصل وترتب على ذلك من جرائم قتل وتفجير),
وردّ تراجعهم الى (جلوسهم مع المشايخ وتوزيع الكتب التي
تفيدهم ونقاشهم في ما هم عليه من أخطاء ومعتقدات والتأكد
من عدولهم).
ولم يفت النجيمي أن يلقي بآثام التطرف واندساسه في
أذهان الشباب الى الخارج، زاعماً بأن (الفكر التكفيري
استقى من أفغانستان والشيشان وحركة طالبان وأبومحمد المقدسي
بالأردن وذلك باعتراف من تمت مراجعتهم, فهناك من ذهب للجهاد
في أفغانستان أو من تتلمذ وتعلم على أيدي الذين ذهبوا
لأفغانستان)، وأضاف أيضاً بأن (أحداث غزو العراق وقتل
الفلسطينيين من قبل إسرائيل, ساهمت في سرعة اعتناقهم لهذا
الفكر وفي تجييشهم وسرعة انضمامهم للتطرف).
نلحظ في تصريحات النجيمي، بما تضمنته من تعبير أمين
لموقف أعضاء لجنة المناصحة، تمويهاً متهافتاً يهدف الى
تجاوز الحقيقة الدامغة لجهة تركيب حقيقة أخرى تسمح بإنفلات
الطرف المباشر الضالع في عملية التغذية الايديولوجية للعنف.
فمنذ أن بدأ مسلسل العنف في الحادي عشر من سبتمبر، وبدأت
البصمة السعودية واضحة على مسلسل العنف المتواصل في أرجاء
عديدة من العالم، كانت جهود الأمراء والعلماء مكرّسة لتحميل
الخارج (حركات ودول) نوائب العنف. فبينما حمّل الامير
نايف جماعة الاخوان المسلمين في مصر مسؤولية انبثاث أفكار
التطرف والتشدد، حمّل المشايخ الاوضاع السياسية في افغانستان
وباكستان والعراق فلسطين مسؤولية إنبعاث ظواهر متطرفة.
وقد بات معروفاً، أن تحميل الخارج ليس أكثر من محاولة
هروبية لصرف الانظار عن المخازن الايديولوجية الكبرى في
الداخل.
مشكلة معالجة التطرف من قبل لجنة المناصحة، أنها تحاول
عن عمد تصوير التطرف وكأنه عدوى خارجية تسللت عبر الحدود
فأصابت بفيروساتها شباباً قادهم قدرهم الى الموت السادي.
لم يظهر حتى الآن من المشايخ من يملك الشجاعة الكافية
لمراجعة أدبيات الدعوة السلفية التي ما فتأت تروج بين
الشباب خلال أكثر من عقدين، وتزوّد الساحة المحلية بأفكار
شديدة التطرف، فقد يبدّل شيخ ما أفكاره من اليسار الى
اليمين ولكن دون تنويه الى خطأ ما كان عليه من أفكار ومواقف،
وقد يتمسك شيخ آخر بأفكاره ولكن دون أن ينسبها الى التطرف،
وإن بلغت من شدتها حداً يصل الى تكفير ثلاثة أرباع الكرة
الارضية أو أكثر من ذلك، ولا يجد في ذلك ما يدعو للقول
بأنها متطرفة بل هي في نظره موقفاً عقدياً يدين الله به
يوم القيامة، وقد ينهج شيخ ثالث طريقة تقسيم العالم الى
كفار ومشركين وغلاة ومبتدعة تحت مسميات غير دينية مثل
ليبرالية وعلمانية وحداثية بما تستلزمه من أحكام عقدية
تسوّغ القتل في حدها الاقصى والاقصاء والنبذ في حدها الادنى،
ولا يجد هذا الشيخ ضيراً في إعتبار ذلك واقعاً لايمكن
نكرانه..
لا نخال أن الأمراء أو أعضاء لجنة المناصحة من المشايخ
وغيرهم يجهلون تشخيص مشكلة العنف، وإن أخطأوا الطريق.
فقد جرّب الامراء الحل العسكري لاجتثاث جماعات العنف،
وتبيّن لهم من اتساع رقعة انتشار العنف وانضمام المزيد
من الافراد أن القوة وحدها ليست قاصمة لظهر العنف، فأضافوا
اليه قوة الاقناع بعد مفاوضات طويلة بين رموز سلفية ناشطة
مثل الشيخ سفر الحوالي والشيخ عايض القرني وغيرهم، وقد
حققوا نجاحاً نسبياً من وراء ذلك، الا أن الحلّين أضلاّ
الطريق، عن عمد، حين تجاهل الأمراء والمشايخ دور المنابع
الايديولوجية للعنف الممثلة في مجمل الانشطة الدعوية من
كتابات عقدية، ونشريات صحوية، وخطب دينية، وبرامج ثقافية
في التلفزيون والراديو والانترنت، أضف اليها بيانات وفتاوى
مازالت تتدفق على الساحة وتسهم في صناعة إتجاهات الرأي
العام السلفي، وتصيغ أفكارهم ومواقفهم وعواطفهم..
كان ما جرى في معرض الكتاب الدولي في الرياض والندوات
المصاحبة له، لدليل على أن التطرف الفكري والنزعة الاقصائية
نبتات محلية بإمتياز. وفيما يلي مقالتان لكاتبين سعوديين
تمثّلان محاولتين حفريتين في الفكر السلفي المتطرف.
|