الوهابية منطقها التكفير وقتل المخالف
نار التكفير تأتي على الجماعة (الموحّدة)!
عمر المالكي
التكفير يبدأ بالآخر وينتهي بالذات. فالتشدّد والتطرّف
والعنف لا بدّ أن يعود على الجماعة ليفتتها ويهزّها ويوغل
في تدميرها، مثلما فعل (ضد الآخر) الكافر بالضرورة ابتداءً!
الوهابية ودولة آل سعود قامتا على التكفير، وقد صدق
جلال كشف في كتابه (السعوديون والحل الإسلامي) حين قال
بأن دولة السعوديين لم تكن لتقوم لو أنها اعتبرت (الآخر)
في الجزيرة العربية مسلماً، سواء كان في الحجاز أو في
الأحساء أو في عسير وجيزان أو حتى في نجد.
التكفير كان المبتدأ. والإحتلال وما رافقه من قتل وذبح،
كان الخبر والمنتهى!
ولأن التكفير حالة متأصّلة لدى الوهابيين، حتى بعد
قيام الدولة، واستخدموه لتهميش الآخر والإستحواذ على السلطة
والثروة، وفي الحروب الإقليمية وحتى في الحروب الدولية
(الحرب الباردة ضد الشيوعية).. فإنه حين يتوقّف التكفير،
تفقد الوهابية زخمها وعنفوانها، وفي الحقيقة مبرر وجودها.
ولئن نجحت الوهابية النابذة لكل المسلمين بالكفر، وأمعنت
فيهم السيف، نجحت من التحوّل الظاهري في موقفها من اعتبار
المسلمين كفرة الى أن أصبحوا (المدافع عن أهل السنّة والجماعة)
بفعل احتلالهم للأماكن المقدسة في الحجاز، وتوافر الثروة
المالية لنشر الدعوة النجدية، كما يسمونها.. إلا أن هذا
لم يلغ حقيقة قارّة في الذهنية الوهابية وهي أنه لا يوجد
مسلمون (أبعد من نجد).
وفي داخل نجد هذه، معقل الوهابية، كان لا بدّ للوهابية
أن تشطرها بين مؤمن وكافر، بعد التحولات التي جاء بها
التحديث وتغير أنماط الثقافة والتفكير، فارتدّ التكفير
الوهابي ـ أو جزء منه ـ ضد آل سعود، من الإخوان الأوائل،
جيش آل سعود، الى عنف الوهابية اليوم وتفجيراتها، مروراً
بما فعله جهيمان وصحبه، ناهيك عمّا فعله الوهابيون ويفعلونه
في ديار متعددة من المغرب الى أندونيسيا.
وحتى منظري المذهب، منظري التكفير، لم يسلموا من التكفير
هم أنفسهم، فكان لافتاً ـ ربما لأول مرة ـ أن ابن باز
وابن عثيمين ومشايخ كبار من الوهابية صاروا هدفاً، واعتبروا
كفاراً يدعمون نظاماً كافراً، بالمنظور الوهابي.
والغريب أن قادة المذهب الوهابي يستقون من نفس المعين
الذي يستقيه تلامذتهم الصغار الذين يكفرونهم، فالقادة
يكفرون غير الوهابيين، والصغار يزيدون على ذلك، واعتماداً
على ذات النصوص، المشايخ وآل سعود!
أهم مصادر التكفير مجموعة في خزائن موسوعة (الدرر السنية
في الأجوبة النجدية)، والتي تحوي 16 عشر مجلداً تجمع أهم
تراث الوهابية، ومن يقرؤه يجده شعلة من النار تحرق من
يقترب اليها، حيث ستجد التكفير يأخذ مساحات واسعة، لمجرد
لبس قبعة، أو بنطلون، أو لمجرد لعب كرة القدم، أو مشاهدة
التلفاز، أو حتى أقل من ذلك: إهداء وردة!
ومع هذا يدافع التكفيريون الرسميون والخارجيون عن هذا
الإرث الوهابي الناري، فالجميع متفق على مرجعية هذا التراث
الذي يخرج ما لا يقل عن 99% من المسلمين من دائرة الإسلام،
ولا يبقي سوى بضعة أفراد يقطنون نجد وحواري بريدة!
عبدالعزيز آل الشيخ، المفتي الحالي سئل عن الوهابية
وأنها مصدر التكفير في العالم اليوم، وأن كتاب الدرر،
وما هي بدرر بل كتل نارية، تحوي التأصيل لذلك.. فرد نافياً
أن الوهابية هي مصدر التكفير لأنها لا تكفر إلا من يكفره
الله! وهو قول اعتاده المكفراتية، واضاف: (وأما الدرر
السنيّة، فهي رسائل مشايخ نجد وأئمة الهدى، كلها عدل،
وكلها خير، وكلها توضح الحق، وكل الدرر السنية وما فيها
من رسائل لمن درسها صادقا خاليا من الهوى يرى فيها الحق
الواضح، أما من عميت بصيرته فقد يقرأ القرآن ولا يفهمه)!
وأعدّ المكفراتي، سليمان الخراشي، الذي زاد عدد الذين
كفرهم من الشخصيات العلمية والثقافية والدينية والصحافية
والشعرية وبالإسم المئات، أعدّ كتاباً تمجيدياً يدافع
فيه عن كتاب (الدرر!) حوى أقوال مشايخ الوهابية فيه والتي
تراه منبر ومصباح هدى؛ ويمكن للقارئ أن يطلع على موسوعة
(الدرر!) ليرى ما إذا كان يستطيع أن يخرج من تصنيف الكتاب
باعتباره كافراً!
إن التراث الوهابي هو الوقود للتكفير في الماضي والحاضر،
سواء تم استخدام التراث في تكفير المختلف مذهبياً أو كان
ضد الجماعة (النجدية) نفسها، وقيادتها السياسية: آل سعود،
أو ضدّ مثقفين وربما مشايخ وكتاب وصحافيين من نفس الدائرة
السلفية المذهبية.
ابن باز: كفّر غيره، وكفّره أتباعه!
|
تكفير القاعدة جاء من هذا التراث، ولم يستخدم ضد الأميركي
إلا متأخراً، فقد سبقه ضد الأفغاني والباكستاني والعراقي
واللبناني والمغربي والجزائري فضلاً عن المسيحي وغيره.
وتكفير عشرات الأسماء المحلية جاء وفق هذا التراث؛ وتكفير
المفتي الحالي كما المفتي السابق، وأيضاً تكفير بعض المشايخ
جاء وفق تشخيص هذا التراث، إضافة الى أن تكفير النظام
والعائلة المالكة كان مبنيّاً على معطياته الفكرية والفلسفية.
ولذا نرى في كل يوم هناك فتوى تكفيرية، إما لجماعة بحجم
الشيعة (200 مليون أو أكثر) أو ضد الزيدية في اليمن، أو
ضد الأباضية في سلطنة عمان، أو ضد شتى صنوف الإسماعيلية،
أو الصوفية أو المارتيدية الأشعرية وغيرهم.. وإما لأفراد
بعينهم، يتولاهم الوهابيون بالتكفير.
من هنا، فإن الضجّة التي قامت إثر تكفير الكاتبين عبدالله
بن بجاد العتيبي ويوسف أبا الخيل، ما هي إلا محطة من المحطات،
سبقها تكفير مجاميع أخرى لا نستطيع تعدادهم: الغذامي،
الحمد، النقيدان، وغيرهم. والفتوى هذه المرّة ليست بالتكفير
فقط، وإنما اعتبار الشخصين مرتدين، يجب استتابتهما فإن
لم يتوبا قُتلا!
ما هي الحكاية، ما هي الجريمة الكبرى التي اقترفها
هذان الكاتبان، خاصة وأن أحدهما كان مكفراتياً هو الآخر،
وتراجع بعد فترة من الزمن، لكي يستحقا هذا الحكم الشديد؟
إنها بسبب مقالة لكل منهما، لم تعجب منظري الوهابية
التكفيرية.
الآخر في ميزان الإسلام
هذا عنوان مقال كتبه يوسف أبا الخيل في جريدة الرياض
16/12/2007، استحقّ بسببه التكفير ونعته بالمرتدّ الذي
إن لم يتب يقتل!. فكرة المقالة ليست جديدة، بمعنى أن آخرين
سبقوا الكاتب إليها، وهي فكرة تحاول تعريف من هو المسلم؟
ومن هو الكافر؟ فالرؤية التقليدية تقول بأن كل من هو (غير
مسلم) كافرٌ بالضرورة، وبالتالي فإن صراع (الإسلام) مع
الديانات الأخرى كالمسيحية واليهودية هو صراع مع (كفار).
يرى يوسف أبا الخيل في مقالته آنفة الذكر، أن هذا ليس
موقف الإسلام من مخالفيه، بل هو موقف
(اختزلته التقليدية الماضوية في دائرة التكفير والتكفير
المضاد، لا بين الإسلام وغيره من الأديان الأخرى فحسب،
بل بين المذاهب الإسلامية نفسها). فالإسلام ـ برأي أبا
الخيل وآخرين ـ (مضمون ديني يتسع في القرآن ليشمل الديانات
السماوية التي تنتمي إلى دين إبراهيم، كما في قوله تعالى:
إن الدين عند الله الإسلام، وكذلك: ومن يبتغ غير الإسلام
ديناً فلن يقبل منه، فالمقصود بالإسلام هنا هو دين إبراهيم،
دين التوحيد، في مقابل الشرك. وهذا الإسلام ـ على خلاف
ما يريده المتشددون والمتنطعون ـ لا يكفّر مخالفيه لمجرد
عدم اتباعهم رسالته، بل يكفَّر منهم فقط من يحول بين الناس
وبين ممارستهم لحرية العقيدة التي كفلها لهم). ويرى أبا
الخيل أن الفقهاء هم الذين غيّروا وجهة الإسلام، حيث (لم
يلتبس الأمر إلا عندما اخترع الفقهاء مصطلح: دار الحرب،
في مقابل مصطلح: دار الإسلام، زمن الفتوحات. فأصبحت دار
الحرب تعني حينها كافة المجتمعات والدول التي لا تنضوي
تحت لواء الدولة الإسلامية التي تمثل بدورها دار الإسلام،
مما سمح بتعدية مصطلح الكفر لاحقاً ليكون وصفاً لكل من
لا يدين بالإسلام).
ويقسم أبا الخيل، المجتمعات والديانات، من خلال تقسيم
موقفها من عقيدة التوحيد. فهناك من حارب الدعوة الإسلامية
أيديولوجياً لمصالح لها، مثلما هم مشركي العرب والمسيحيين
(من أصحاب عقيدة التثليث فحسب) وهؤلاء كفار. وهناك فئات
دينية وجدت في الدعوة الإسلامية أنها تدعو الى ما كانت
تدعو هي إليه من وحدانية الله، (وتمثلت هذه بالمذاهب المسيحية
التي رفضت عقيدة التثليث والتي زُندقت وهُرطقت من قبل
المجمعات المسكونية الرومانية التي أقرت تلك العقيدة)..
هؤلاء المسيحيون المعتقدون بالديانة التوحيدية (المذهب
الأريوسي) والحنفاء الأوائل الذين نأوا بأنفسهم منذ البداية
عن عبادة الأصنام، يعتبرون موحدين ويدخلون ضمن عقيدة (الإسلام)
بمعناه الإبراهيمي. وأخيراً هناك فئات دينية حيادية تجاه
الدعوة المحمدية كما هم الصابئة، الذين لم يكفرهم القرآن
ومثلهم اليهود، لولا أنهم انقلبوا على الإسلام وحاربوه
فاستحق من قاتل منهم أن ينعت بالكفر، وإلا فإنهم في الأصل
مشمولون فيما يشمل المسلمين.
ويشير أبا الخيل الى عقد النبي لصحيفة المدينة مع اليهود،
وكيف أنه آخى بينهم وبين المسلمين عبر تلك الصحيفة، وأنه
ضمن لهم حقوقهم بالمساواة، بل وأشارت اليهم الصحيفة بأنهم
(يهود) وليسوا (كفاراً) رغم بقائهم على دينهم. ولكن حين
اعتدوا، صار المعتدون منهم فقط (كفاراً).
الشيخ البرّاك صاحب فتوى الردّة
|
ويضيف أبا الخيل: (أما من لم يحارب الإسلام، سواءً
من الكتابيين الموحدين أو من أتباع العقائد الأخرى فلم
يرمهم الإسلام بالكفر على الرغم من بقائهم على دينهم،
بل اعتبرهم من ضمن الفرق الناجية. يؤكد ذلك قوله تعالى
في حق المذاهب المسيحية التي رفضت عقيدة التثليث: ((ولتجدن
أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن
منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون)) وكذلك قوله
تعالى في حق الكتابيين عموماً ممن بقوا على دينهم ولم
يحاربوا الإسلام، كما بقية الطوائف الأخرى التي بقيت على
الحياد من رسالة الإسلام: ((إن الذين آمنوا والذين هادوا
والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً
فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا يحزنون)).
هذا هو مقال أبا الخيل، مجرد رأي مدعّم بالآيات القرآنية،
وهو رأي كما قلنا ليس بجديد، وفي حال الإعتراض عليه، يعتبر
مجرد رأي، لا أن يترتب عليه التكفير واعتباره مرتداً يستحق
القتل. إن فتوى الإرتداد تكشف لنا كم هي الوهابية منغلقة،
وكم هي متطرفة، وكم هي لا تقبل رأياً مخالفاً حتى ولو
كان دينياً أو من داخل الدائرة الدينية، وكم هي جامحة
عنيفة تجاه المخالف وكم هي أداة (خانقة) للرأي والفكر
حتى في أبسط الأمور.
إن هذه المقالة تدخل في خانة الرأي، وصاحبها يدخل في
خانة المفكرين والداعين الى التجديد، والحقيقة فإنها تحلّ
إشكالات لاتزال تعصف بالذهن المسلم العادي، الموتور من
كل ما ومن يخالفه. هذه المقالة وأمثالها تمثل فتحاً ومصالحة
مع تراث المسلم أولاً، ومع محيطه الواقعي اليوم، ولكن
الوهابية، لا تخنق المجتمع السعودي فحسب بوسائل السلطة
السعودية، بل تخنقه حتى في حدود التفكير الدنيا التي نشهدها
في كل مكان من العالم.
إسلام النصّ وإسلام الصراع!
وهذا عنوان آخر لمقالة عبدالله بن بجاد العتيبي التي
كفّر بسببها أيضاً. ومرّة أخرى، فإن جوهر فكرة المقالة
هذه ليس جديداً، وقد سبقه آخرون في القول بها. ملخص فكرة
المقالة تقول بأن الإسلام في جوهر معتقداته بسيط، متسامح،
مباشر، سهل التطبيق في تعاليمه.. لا يتطلب الدخول إليه
عملية معقدة بل مجرد إشهار (الشهادتين: اشهد أن لا إله
إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله). هذا الإسلام تحوّل
اليوم الى كائن معقّد، اختفت منه أهم صفاته، وأعيد تركيب
أجزائه، بحيث صار من السهل إخراج الناس من دين الله أفواجاً،
بسبب التشدد وبسبب (إعادة التركيب) لمفرداته العقدية.
ولهذا يدعو الكاتب العتيبي الى العودة الى أصول الإسلام
البسيطة، بعيداً عن الشروحات الطارئة عليه، والتي جعلته
مثاراً للفتن والحروب.
يبدأ العتيبي مقالته بإيراد حديثين من صحيح مسلم، تكشف
بساطة الإسلام كمعتقد، ويلفت نظر القارئ بأن صحيح مسلم
يعتبر من (أصحّ الكتب المعتبرة في رواية الأحاديث النبوية).
بعدها يعلق الكاتب على الحديثين بالتالي: (هكذا بكلّ منطق
سهل ومباشر يقدّم الحديث الإسلام والإيمان للناس بعيداً
عن أي عدائية أو تعقيد تجاه الآخر المختلف خارجياً أو
داخلياً، غير أنّ البشر المتصارعين بطبيعتهم احتاجوا في
صراعاتهم إلى استخدام كل أداةٍ ممكنةٍ ليوظّفوها في موازين
القوى داخل خضم صراعاتهم، ولمّا كان العامل الديني عاملاً
حاسماً وسلاحاً فتّاكاً في الصراع، فلم يكن ممكناً أن
يغفله المتصارعون، وهكذا كان).
ويشرح العتيبي الأمر، بأن المتصارعين أدخلوا (في التراث
الدين كأداة صراعٍ، وسلّطوا عليه آليات تأويلية وتفسيرية
تخدم هدف كل جهة من المتصارعين وكل جماعة من المتناحرين،
وباختلاف الأهداف والغايات اختلفت التأويلات والتفسيرات).
ثم يقرّ بأن الإسلام المباشر البسيط، لا يمكن أن يفيد
في الحروب والنزاعات من حيث أنه دين متسامح جاء (رحمة
للعالمين) لذا لزم المتصارعين القيام بـ (تجزئته وتقطيعه
ومن ثمّ إعادة بنائه وتركيبه ضمن منظومة تضمن خدمة أهدافهم
الصراعية، وتشكّلت على هذا الأساس إسلاماتٌ تعبّر عن رؤية
كلّ فريقٍ وتثبّت نظرية كلّ طائفة).
ويقدّم العتيبي مثالاً واضحاً من وحي ما جاء في الأحاديث:
فشهادة أن (لا إله إلا الله) التي كانت محوراً للحكم على
الفرد بالإسلام، تمت تجزئتها الى جزئين: الأول (لا إله)
والثاني (إلا الله)، ثم: (تأتي مرحلة الشحن التأويلي ومرحلة
التعبئة التفسيرية، فيكون الجزء الأول: (لا إله) المقصود
به هو: الكفر بالطاغوت، ونفي جميع الأديان والتأويلات
الأخرى، ويضاف لذلك تكفير المخالفين وقتالهم والبراءة
منهم، ثم يأتي دور الجزء الثاني: (إلا الله) لتتم تعبئتها
كالتالي: أي لا معبود بحقٍ إلا الله، أو لا موجود إلا
الله، أو غيرها من التفسيرات المشحونة والملغومة التي
اختلفت باختلاف المدارس والفرق والمذاهب والطوائف، وعلى
هذا فقس).
هذا المثال يتعرض بصورة واضحة الى معتقد الوهابية،
فهذا هو رأيها المشحون، بالرغم من أن هناك مسلمين لهم
رؤى مشابهة، إلا أن المثال جاء وكأنه ردّ على كتاب التوحيد
للشيخ محمد بن عبدالوهاب، مؤسس المذهب الوهابي. ومن هنا
كان توتّر مشايخ الوهابية.
ومما جعلهم ينزعجون من الرجل ويكفرونه، هو قوله: (وإذا
كان هذا جزءا من التشويه الأيديولوجي لأهم مبدأٍ في الإسلام
ـ الشهادتين ـ فما بالك بما دون ذلك من عقائد وشعائر،
من روحانياتٍ وسلوكيات، من عبادات ومعاملات)!
كيف يكون ذلك، والوهابية لم تقم إلا على هذا الأس من
التقسيم والتشويه والتحريف، حيث قاتلت المسلم في جزيرة
العرب وخارجها بناء على هذا الرأي الذي يتعرض له العتيبي،
لتقوم للوهابية دولة، يحكمونها بالتشارك مع آل سعود. وما
زاد الإزعاج أن العتيبي حرّض على مواجهة هذا الفكر، بل
الإنحراف الضارب بأطنابه في الأذهان، ودعا الى الإنعتاق
من أغلاله. ليصار الى تصالح المسلمين (مع إيمانهم من جهةٍ
ومع واقعهم من جهةٍ أخرى، مع دينهم من ناحية، ومع دنياهم
من الناحية المقابلة، وإجمالاً أن يتمكنوا من المصالحة
بين متطلبات الخلاص الروحي وواجبات البناء الحضاري).
وتوقّع العتيبي أن مقالته تلك ستواجه من قبل (حراس
الفضيلة!).. يقول: (من الطبيعي أنّ يثير مثل هذا الطرح
سدنة القديم وحرّاس السائد وجنود المألوف، وأن يجلبوا
بخيلهم ورجلهم عليه وعلى طارحيه، لأنه يزعزع المكتسبات
الكثيرة التي يتمتّعون بها، وينزع مخالب السلطة التي يدلّون
بها على الناس، ويكسر سيوفهم المصلتة على رقاب العباد،
ولكن من الطبيعي أيضاً أن يصبح مثل هذا الطرح محلّ نقاشٍ
وحوارٍ متواصلٍ، حتى نعيد للإسلام رونقه ونمنح للواقع
تنميته وللإنسان تصالحاته. إنّ التحريفات والتأويلات والتفسيرات
الصراعيّة لا تؤمن أن: الدين المعاملة، وأنّ: حب الخير
للناس من أعظم العبادات، وتلغي من قاموسها أنّ الإسلام
إنّما جاء: رحمة للعالمين، وتتجنى على كثيرٍ من المفاهيم
المفترى عليها والمغيّبة قسراً عن التداول والتأثير، لتفسح
المجال رحباً أمام تحويل الدين بكل قداسته إلى مجرد ترسانة
أسلحة في حرب ذات معارك متعددة ومنتشرة في الزمان والمكان).
فتوى الردّة ومتطلبات القتل
بناء على هذين المقالين، انطلق أحد مشايخ الوهابية
الكبار، عبدالرحمن ناصر البراك، وهو أستاذ أصول الدين
بجامعة الإمام بالرياض، وأحد رموز السلفيين بالمملكة،
فأصدر فتوى بردّة الكاتبين في 13/3/2008م. فقد أُرسلت
للشيخ البرّاك صورة من المقالتين لتوضيح رأيه فيهما، مشفوعة
بسؤال ملغّم عن (الكتابات الصحافية المصادمة لأحكام الشرع
المطهّر). أجاب البراك بأن: (من زعمَ أنه لا يكفرُ من
الخارجين عن الإسلام... إلا من حاربه) ، أو زعم (أن شهادة
ألا إله إلا الله... لا تقتضي نفيَ كلِّ دينٍ غير دين
الإسلام، مما يتضمن عدم تكفير اليهود والنصارى وسائر المشركين)
(فإنه يكون قد وقع في ناقضٍ من نواقض الإسلام. فيجب أن
يحاكم ليرجع عن ذلك. فإن تابَ ورجع، وإلا وجب قتله مرتداً
عن دين الإسلام، فلا يغسَّل ولا يكفَّن ، ولا يصلى عليه،
ولا يرثه المسلمون).
وطالب البراك باستخدام سلطة الدولة في قمع المخالفين،
وشدّد على محاسبة رؤساء التحرير الذين يسمحون بنشر ما
سماه بالمقالات الكفرية، إذ (إن من المؤسف المخزي نشر
مقالاتٍ تتضمن هذا النوع من الكفر في بعض صحف هذه البلاد
المملكة العربية السعودية؛ بلاد الحرمين. فيجب على ولاة
الأمور محاسبة هذه الصحف على نشر مثل هذا الباطل الذي
يشوِّهُ سمعة هذه البلاد وصورتها الغالية. وليعلم الجميع
أنه يشترك في إثم هذه المقالات الكفرية كل من له أثرٌ
في نشرها وترويجها من خلال الصحف وغيرها، كرؤساء التحرير
فمن دونهم كلٌ بحسبه).
ولم تكن هذه الفتوى الأولى من نوعها للبراك، فقد أصدر
بيانًا سابقًا اتهم فيه الصحفيين والكتاب الليبراليين
بالاستخفاف بأهل العلم والدين، واعتبر أنهم يحملون أجندة
مضادة للدوائر الشرعية والنيل منها، مطالبًا السلطات (بوضع
حد لأمثال هؤلاء)، حسب تعبيره. وقد انحاز الى الشيخ البرّاك
في فتواه الأخيرة، مجموعة أخرى من المشايخ الوهابيين،
كان عددهم 20 شيخاً، وقعوا بياناً أعلنوا فيه تضامنهم
مع فتوى الشيخ البراك سمّوه: (بيان في مناصرة فتوى العلامة
عبدالرحمن البرّاك). وبعد أن يقرر الموقعون اطلاعهم على
ما كُتب وعلى فتوى الشيخ البراك، وردود الفعل على الغاضبة
على الفتوى والتي نشرت في الصحافة المحليّة وفي المنتديات
المحلية، جاء:
(.. واطّلعنا أيضاً على مَا حصَل مِن هجومٍ خبيث على
شيخنا العلاّمة مِمّن تلوّثت عقائدهم وانحرفِت مناهجهم،
وشَرقت نفوسهم بهذه الفتوى الّتي كَشفَت ضَلالهم، وهَتَكَت
أستارهم .ومع عِلمنا بإمامة شَيخنا في الدِّين، ومكانته
في الأُمّة، وثِقة المُسلمين بعِلمه وفتاواه، ووُضوح ما
أفتى به... نقول: إنّ هذه الفتوى قد دلّ عليها كتاب الله
وسُنَّة رسوله... وليس لأحدٍ من الناس أن يشكك فيه .وكلام
شيخنا واضح بإيكال الأمر وإسناده إلى ولي الأمر استناداً
إلى عبارته بوجوب محاكمته، ولما عرف وشاع واستفاض من منهجه
وما ربّى عليه تلامذته. ونؤكد على ما طالب به ـ حفظه الله
ـ من محاكمة قائل هذا القول وأولئك الذين تعمدوا تحريف
كلامه وتشويه سمعته واتهامه بما هو بريء منه).
أول الموقعين العشرين على بيان الدعم هذا: الشيخ ابن
جبرين، الذي أفتى بكفر المواطنين الشيعة وقتلهم إن لم
يسلموا، وعبدالعزيز الراجحي، وعبدالله السعد، ومحمد المطلق،
وغيرهم.
إضافة الى العشرين شيخاً، فإن مجموعة أخرى من المشايخ
أصدرت بيانات منفصلة مؤيدة لفتوى البراك، بينهم الشيخ
عبدالله الغنيمان الذي اعتبرها (الحق.. ولا يسع من يؤمن
بالله واليوم الآخر مخالفة ذلك).. فيما وصف المتطرف ناصر
العمر الفتوى بأنها (علمية محكمة) وأضاف: (أوؤيد ما ورد
فيها حول كفر من وقع في ناقض من نواقض الإسلام وردّته
ولو زعم أنه مسلم). أيضاً الشيخ عبدالله التويجري وصف
الفتوى بأنها (الحق الذي يدين الله به) ووسّع الأمر مهاجماً
ومحذراً من مواطنين اعتبرهم (من أهل الزيغ والضلال من
الزناذقة والمرتدين الذين يتكلمون بألسنتنا وهم حرب لنا...
هم أعظم جرماً من رسام الدانمارك وسلمان رشدي) وطالب بإقامة
حكم الله فيهم، أي: القتل! هناك شيخ وهابي آخر وهو عبدالرحمن
المحمود أيّد الفتوى، وزعم أن مضمونها (إجماع) الأئمة
الأربعة! أما سعد الحميد فاعتبر قول (شيخنا الشيخ البراك
حفظه الله ورعاه هو الحق) وأضاف: (أوافق عليه جملة وتفصيلاً).
الشيخ الفوزان: على خطى التكفيريين
|
أما الشيخ صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، وصاحب
كتاب التوحيد الذي وضعه كمنهج دراسي، والذي كفّر فيه المواطنين
الحجازيين والشيعة وأهل الجنوب، أي أكثر الشعب السعودي،
فأشعل بذلك فتنة بسبب رفض الطلبة حضور حصة الدين، فإنه
كتب مقالاً يدعم فيه فتوى البراك، وشدّد النكير على الكاتب
ابن بجاد، فكان عنوان المقال غريباً في مجتمع مسلم: (كفّوا
عدوانكم على الإسلام). قال الفوزان بأن الكاتب تجرّأ على
ثوابت الإسلام، وانتقده لأنه اتهم (أهل التوحيد) أي الوهابيين،
بأنهم جزّأوا لا إله إلا الله، وأضاف بأنه يريد (أن يبطل
مدلول لا إله إلا الله) ويشوهه، وتابع موجهاً كلامه للكاتب
ابن بجاد: (إبشر بما يسوءك، فلن يسكت المسلمون عن الدفاع
عن عقيدتهم.. وستبوء بالفشل إن شاء الله) مخرجاً الكاتب
من دائرة الإسلام بصورة ملتوية.
وهناك كاتب آخر، هو عبدالله العجيري، فقد كتب مقالة
تحت عنوان: (ابن بجاد والحلقة الأخيرة في مسلسل الإفساد)
بدأها بوصف ما يطرح من كتابات لا تتواءم مع رؤية الوهابية
بأنها (أطروحات ليبراليين) (تستهدف تفريغ الإسلام من محتواه،
وصناعة إسلام يناسب أمزجتهم وعلى الكيف)!
واعتبر مقالة العتيبي (حلقة في مسلسل مسخ الدين، وزعزعة
ثوابته، بل والإغارة على أغلى ما فيه: ركن الإسلام الأعظم).
وعدّ المقال كمثال (معبر عن حجم الانحراف فيما يؤصل له
الكاتب ويُنظّر، ويؤكد على أن الكلمة المجملة قد يقولها
الصديق والزنديق). وأنه ليس إلا (هدمٌ واضحٌ متعمدٌ لأعلى
وأغلى وأجل ما في هذا الدين، وتعطيل لأعظم كلمة من معانيها
وأحكامها).
واعتبر ما جاء في مقالة العتيبي جرأة على مبدأ الحق،
وأنها (الحلقة الأخيرة في مسلسل مسخ الدين وإعادة تأهيله
ليتناسب وأمزجة أولئك المنحرفين). وأن مبتغى الكاتب فيما
أسماه بـ (مسلسل الإفساد) (يحتاج إلى حلقات لا إلى حلقة
واحدة تحقق المطلوب، ومن شاء فلينظر في حال الشيطان ففي
خطواته عبرة، أم أن كاتبنا يعتقد أنه من (أصحاب الخطوة)!
وأنه أقدر من إبليس على الإضلال والإفساد! لقد خاب إذن
وخسر)! ويختتم العجيري مقاله بأن مشكلة (الزائغ) العتيبي
ليست مع سدنة الوهابية وإنما (مع دين الإسلام نفسه، وما
هم وإياه إلا كثيران هائجة تنطح بقرونها جبلاً أشماً فما
ضر الجبل نطحهم ، وتوشك أن تنكسر تلك القرون).
الضحايا يردّون
قال عبدالله بن بجاد للعربية (13/3/2008) بأنّ الشيخ
البرّاك (يملك ثقلا لدى القاعدة والمتعاطفين معها، وغير
ذلك فليس له أي منصب رسمي في المؤسسة الدينية السعودية،
ولا يمثل بعداً جماهيرياً لدى عامة الناس، بل كثير منهم
لا يعرفونه، ولكن المتطرفين والمتشددين يعرفونه جيدا لأنه
شيخهم). وأضاف بأن (فتوى البراك تذكرنا بفتاوى أخرى أصدرها
منظرو هذا التنظيم مثل محمود العدوة وناصر الفهد وعلي
الخضير والذين كان الشيخ عبدالرحمن البراك يصدر ويوقع
معهم البيانات سويا، فهو مقرب جداً من خطابهم ومن تفكيرهم)..
وأنها فتوى ليست جديدة و(سبق أن خرجت أكثر من فتوى). وتابع:
(لو ردّ البرّاك رداً علمياً، لرددت عليه بنفس الطريقة،
ولو كتب بحثاً في انتقادي لكتبت بحثاً، لكن عندما يتحول
إلى فتوى تكفير وتحريض بالقتل، فأعتقد أنني لست خصما له،
وإنما خصمه مؤسسات الدولة المعنية بحفظ الأمن). وأكد أن
(خطورة السكوت على هذا الأمر تجعله مرشحا للانتشار والتطبيق
على أشخاص آخرين) مشيرا إلى أن (هذه الفتاوى تنشر الفوضى
في المجتمع وتلغي دور مؤسسات الدولة) متسائلاً: (إلى متى
تستمر فوضى الفتاوى خصوصا في موضوعات حساسة تصل إلى اخراج
الناس من دينهم واتهامهم في عقيدتهم والتحريض على قتلهم؟..
أعتقد أننا بلغنا نهاية الفوضى باصدار كل شخص فتوى بتكفير
آخر واخراجه من الدين والتحريض على قتله).
وفي مقابلة مع إيلاف (13/3/2008) قال العتيبي أن فتوى
البراك جريمة: (لأن الردة عن الدين تعني دعوة علنية للناس
للقتل وسفك الدم الشخص المعني بالردة... هم دائماً ما
يتنصلون من عدم تحديدهم للشخص معين ولكنهم في أعماقهم
يتمنون لو يقوم أحد الأشخاص بتنفيذ تعاليمهم الصريحة الموجودة
في الفتوى).. وحدد المشكلة في أن المتشددين (يقرأون النصوص
الدينية قراءتهم الخاصة ويجعلون منها الحق المطلق ويلبسونه
بعد ذلك رداء القداسة. وعندما تعلن رأيك يجعلونك ضد الإسلام
ويصدرون بحقك الفتاوى التي تدعو بشكل صريح لسفك دمك، كما
يحدث معي الآن).
أما الكاتب يوسف أبا الخيل، فقال ردّاً على الفتوى:
(سأرفع قضية. يجب أن أرفع قضية. من أعطى البراك الحق في
أن يهدر دمي ودم الزميل عبدالله بن بجاد ويصفنا بالمرتدين.
هو ليس مفتياً وليس مرجعاً دينيا يمكن مقاضاته بشكل قانوني
إذا ما أصدر كلام من هذا النوع. سأرفع قضية لأسترد حقي
المعنوي على الأقل. لقد تم تكفيرنا وصدرت بحقنا فتوى بردتنا
ولكن من يحمي حقوقنا المعنوية). وحذّر بأن الفتوى هي البداية
لكي يقوم شخص ما بتطبيقها على أرض الواقع. وتابع موضحاً
آثار الفتوى على الصعيد الشخصي فقال أنه قبل تنفيذ القتل
(يتم تطليقك من زوجتك وثم يحرم أولادك من الميراث الذي
تتركه، وينزع عنك دينك، وثم تقتل بعد ذلك).
والخلاصة: إن كتلة النار الوهابية لن يتوقف شررها مادامت
مصادر التكفير معتمدة، في المناهج التدريسية، وفي القضاء،
وفي الثقافة العامة، وعلى المنابر، وهي أساس تخريج أفواج
مشايخ الوهابية.. إذا ما أُريد معالجة التكفير والعنف
والقتل والتطرّف، فليعالج التراث الوهابي، وليمنع امتداده
وتسويده في المجتمع، وهذا يتطلب عشرات السنين. أما مكافحة
النتائج فلا تحل شيئاً، وسنسمع فتاوى التكفير تصك آذاننا
كل يوم، نعم كل يوم.
|