(٦)

كيف أخطأ ابن سلمان في حساباته السياسية للعملية؟

لم يكن فريق الاغتيالات السعودي جاهزاً فنياً او كفاءة. كما لم يكن مدبرو الجريمة في الاستخبارات والديوان الملكي يمتلكون من الذكاء أدناه، بحيث يديروا اللعبة سياسياً واعلامياً.

 
حسابات آل سعود السياسية خاطئة وحمقاء

باختصار لم يكن فريق الاغتيالات، ومن هم وراؤه، يفكر بما (بعد تنفيذ قتل خاشقجي).

لم يكن ليتوقعوا ان تفشل العملية، وهي بالنسبة لهم لم تفشل: إذ تمّ قتل وتقطيع جثة خاشقجي فعلاً.

لكن انكشاف الجريمة، كشف معه أن آل سعود غير جاهزين لمواجهة الاعلام والدولة المضيفة والعالم.

لم يفكر ابن سلمان فيما بعد ارتكاب الجريمة واعلانها.

حين أُعلنت الى القنوات الفضائية، بعد نحو أربع ساعات، من دخول خاشقجي القنصلية، استناداً الى خطيبته التي لاتزال تنتظره عند بوابة القنصلية ولم ترحل عنها.. بقي آل سعود ومن أدار العملية على سذاجتهم السياسية، وحساباتهم الطفولية.

كان تخطيطهم ان جمال سيأتي وحده. سيتم التخلص منه بسرعة ـ وهو ما حدث. بعد يوم أو يومين أو أكثر سيفتقده المقربون منه، واحتمل المجرمون في الاستخبارات السعودية ان خاشقجي ربما يكون قد أبلغ أحداً بنيته الذهاب الى القنصلية، وجهّزوا جواباً سهلاً: (نعم.. جاء وخرج من حينه)!

توقّعوا تطور المسألة، وكانوا جاهزين، إذ أنهم وبسذاجة أيضاً أعطوا الموظفين من الأصول التركية العاملين في القنصلية والذين يجيدون العربية، إجازة فورية، وأغلقوا الكاميرات أو عطّلوها يوم الاغتيال لتكون حجّة فيما لو جرى تحقيق بأن لا دليل على (عدم خروجه).

كانوا المجرمون يتوقعون أشياء قليلة وظنّوا ان اجاباتهم الساذجة ستقنع الاخرين.

لكن وقوف خطيبته امام باب القنصلية منذ دخول خاشقجي، أعطى تشكيكاً في كلام القنصلية، وجوابها لسؤالها عنه: خرج، ولا يوجد أحد في القنصلية!

 
اتهامات سعودية وطعنات لخطيبة خاشقجي

بالطبع.. توقّع السعوديون احتمالية تطوّر الموقف، وكل تحليلهم كان قائماً على فرضية أن العملية لن تنكشف، وستقف عند حدٍّ ما، وكل ما سيحدث هو (كلمة واتهام ورد غطاءهما سعودياً) وسيصدق العالم كلام آل سعود مقابل كلام أصدقائه، وحتى مقابل السلطات التركية التي ستعمد الى الخرس.

تقييم آل سعود للموقف التركي كان خاطئاً. كان من رأيهم أن تركيا لن تجازف بالتحقيق في الموضوع، وستعمد على لملمة القضية، حرصاً على عدم توتير العلاقة مع الرياض، وفي حال تمّ التصعيد ـ هكذا حسبها آل سعود ـ فإنه يمكن للرياض تضخيم الخلاف مع تركيا والتهديد بقطع العلاقات السياسية معها، وتحميلها مسؤولية (دم خاشقجي) واعتماد منطق ان إسطنبول غير آمنة، وان هناك الكثير من الاغتيالات وقعت فيها.

وفعلاً.. من راقب الأداء السياسي والإعلامي السعودي يكتشف كم كان التهديد لتركيا بقطع العلاقات معها مطروحاً بجدية، حتى لا تمضي بعيداً في البحث عن مصير خاشقجي، وذلك قبل ان ينقلب الى انبطاح وترجّي وتودد لاردوغان بأن تتوقف التسريبات للإعلام.

اعتقد فريق التصفية لخاشقجي ومن يقف وراءه، بان وقوع الجريمة في إسطنبول (ميزة) فتحوّلت الى (فخ). وقد وجدها أردوغان فرصة للكسب السياسي والاقتصادي محلياً وخارجياً، وتلك قصّة أخرى.

في الأداء الإعلامي السعودي لما بعد وقوع الأزمة، نجد أن صاحب القرار السياسي قد وقع في شرّ أعماله. تملّكته الحيرة، وهو يرى التسريبات والصور والمعلومات، فلا هو قادر على نفيها، ولا هو قادر على إثبات ان جمال خاشقجي قد غادر القنصلية. على العكس، فإن الخطوات التي ظنّ آل سعود انها يمكن ان تخفف الضغط، فتحت عليهم تأكيداً للإتهامات الموجهة اليهم. مثال ذلك: القول بأن كاميرات السفارة لم تكن تعمل (حسب خالد بن سلمان، شقيق ولي العهد، وابن الملك، والسفير في واشنطن)؛ او مثل دعوة وكالة رويترز لتدخل القنصلية لتفتشها بحثاً عن خاشقجي، فكان ظهور القنصل محمد العتيبي بتلك الوضعية بائساً يثبّت الإتهامات بدل أن ينفيها.

سذاجة ابن سلمان تحديداً اوقعته في مآزق.

 
خطف خاشقجي مسرحية، وقطر هي التي اختطفته!

لقد صدّق بأنه بطل وعظيم، يقود (سعودية عظمى). وأنه قد اختطف آخرين ولم يحدث شيء له، فما عسى ان يكون خاشقجي؟ ومن يجرؤ على محاسبة “المملكة العظمى”؟! وظنّ ابن سلمان ان ترامب سيكفيه عبء الضغوط والاعلام، ولن تكبر المشكلة أبداً.

كرة الثلج كبُرت شيئاً فشيئاً.

الاعلام السعودي وقف محتاراً بدون توجيه. المغردون من الذباب الالكتروني وبينهم امراء، كتبوا بأسمائهم في تويتر تأييدهم لقتل خاشقجي، وأبدوا فرحة وغبطة بنجاح عملية قتله؛ بل ان بعضهم دعا معارضين في الخارج الى زيارة القنصلية السعودية (في إشارة الى ان مصيرهم سيكون مثل مصير الخاشقجي)؛ وزاد تنمّر هؤلاء الى حد توجيه تهديدات صريحة وعلنية لمعارضين عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

هذه الفرحة توقفت فجأة بعد يومين او ثلاثة من عملية التصفية لخاشقجي.

وتوجهت الاتهامات بشكل مركز أكبر بأن تركيا وقطر وراء اغتياله، لأنه أراد العودة الى المملكة!

ووجّه بعضهم اتهاماً الى ايران!

ثم توجه الجميع كتابا ومغردين في الصحف وفي مواقع التواصل الى شن هجوم على خطيبة خاشقجي (خديجة جنكيز)، وافتعلوا حساباً باسمها، إمعاناً في التضليل، رغم ان لديها حساب بالعربية، وهي تتكلم بالعربية. بل وصل الأمر بهم ليس فقط الى كتابة مقالات ضدها، وانها عميلة موساد، بل الى الطعن في عرضها؛ وأجرت العربية مقابلة مع زوجة خاشقجي السابقة (آلاء نصيف) التي تزوجت بخاشقجي قبل خمس سنوات، ومنعها آل سعود من الالتحاق به، ثم طلبوا منها تطليقه، وهو ما حدث. جاءت بها العربية باسم (زوجة خاشقجي السابقة) لتطعن في خطيبته الجديدة، ولتشكك فيها، وتقول انها لا تعرفها!! وسبق ان جاء الاعلام السعودي بعائلة خاشقجي وابناءه ليصطفوا مع الحكومة ويقبلوا بروايتها، وهم الممنوعون حتى من السفر!

لكن كل هذا لم يفد. كرة الثلج كبرت. الواشنطن بوست التي يكتب فيها خاشقجي مقالته، صنعت للجريمة اطلالة دولية. وضعت اسمه على عموده المفترض خالياً (قطعة من البياض) وقالت انه دخل القنصلية ويحتمل ان آل سعود قتلوه. وشيئاً فشيئاً اخذت تتابع تفاصيل القضية وتنشر التسريبات التركية حول الموضوع، حتى أصبحت قضية خاشقجي ومقتله جزءً من الحملة الانتخابية الأميركية التي يفترض أن تتم في السادس من نوفمبر القادم.

ترامب الذي لم يكن يبالي، اضطر ان يتحرك، وأن يستثمر الوضع لصالح سياساته، وأن يبتز آل سعود.

قادة أوروبا تحركوا ايضاً، ونددوا باختطافه او قتله، وطالبوا آل سعود بالكشف عن مصيره، ما يعني ان الرواية السعودية لم تقنع أحداً البتة.

 
أكاذيب سعودية متواصلة الى الآن!

في كل الأحوال هذه واحدة من الحسابات الخاطئة لمحمد بن سلمان. فقد استهان بخاشقجي، وظنّ انه في النهاية (حجازي) أي مواطن درجة ثانية او ثالثة؛ لا عصبية قبلية تدعمه او تثأر لدمه، ولا نخبة حجازية يمكنها أن تجأر بالشكوى، ولا دولة يمكن ان تقف معه مادام المال موجوداً في يده.

ثبت لابن سلمان المغرور الطائش كم كان مخطئاً، وهو يرى سيل التنديد من أعضاء كونغرس، ومن أصدقاء خاشقجي من صحفيين وحقوقيين من مختلف بقاع العالم، يدافعون عنه، حتى غرق ابن سلمان هو واعلامه في بحرها، ولازال.

وتركيا التي استضعفها ابن سلمان، وظنّ انها في وضع ضعيف، أدارت اللعبة بذكاء غير معهود، من خلال تسريب المعلومات الى المخابرات والصحف الغربية، وبشكل غير رسمي، فأصبحت الرياض (الرسمية) غير قادرة على مهاجمتها والتنديد بها، لأنها يجب ان ترد على كل المسؤولين والدول الغربية قبل الشرقية. تركيا لم تعط السعودية فرصة للتنفس، ولم تقل شيئاً رسمياً الا متأخراً عبر أردوغان نفسه الذي أكد التسريبات ووضع الرياض تحت الضغط. كل الحرب كانت تسريبات (وان التحقيق جارٍ) بينما كانت القضية قد حُسمت كرأي عام عالمي، بأن الرياض قد قتلت الخاشقجي وقطّعت جثته!

الرياض التي اعتادت جلد تركيا واردوغان لخمس عشرة سنة متواصلة لم تقل فيها كلمة حسنة، وجدت نفسها لأول مرة تحت سياط أردوغان، الذي بدا وكأنه يحمل حبل مشنقة آل سعود، يلوّح به ولا يستخدمه الى أقصاه، انتظاراً الى تسوية لا تريدها الرياض، والى اعتراف سعودي بالجريمة لا تريد البوح به علناً.

 
ليندسي غراهام.. ابن سلمان يجب ان يرحل!

الإرتباك السياسي بدا واضحاً منذ اللحظات الأولى لإعلان جريمة الخطف.

لم يظهر بيان رسمي ينفي دور السعودية في الخطف، وليؤكد على مقولة انه خرج من السفارة، فيما العالم انتقل الى المرحلة التالية، وراح يطلب منهم دليلاً على خروجه.

وزارة الخارجية السعودية، وشخص وزيرها عادل الجبير بقيا صامتين، وحين تحدث فإنه لم يكن قبل اعتراف الحكومة السعودية بمقتل خاشقجي مضطرة بعد ١٧ يوماً من العملية الإجرامية.

حينها تحوّل عادل الجبير الى تكرار ما قاله البيان الرسمي، سواء عبر (الانفوغرافات) التي تصدرها الوزارة اعلامياً، او عبر قناة فوكس كما فعل الوزير.

الاضطراب السياسي للحكم السعودي، أدّى الى تمطيط الوقت في غير صالح ال سعود؛ كما أدّى الى إقناع المزيد من المراقبين والصحفيين والباحثين بأن الرياض متورطة حتى النخاع في العملية الإجرامية.

حتى الكتاب السعوديين الأساسيين، خفّت حماستهم في الدفاع عن الرواية الرسمية بسبب الصمت المطبق، ليتم تبرير ذلك لاحقاً، بأن (الصمت السعودية كان حكمة) ولم يكن بسبب (الحيرة والعجز). وليصبح اعتراف الرياض بجريمتها فيما بعد (شجاعة وعدالة وتطبيقاً للقانون)!

وهكذا تحوّل إخماد صوت خاشقجي الى فضيحة ونتج عنه عكس ما كان يراد من قلته، حيث فتح آلاف المنصات الإعلامية والسياسية ضد آل سعود.

الصفحة السابقة