(٧)

كيف فشل آل سعود في إقناع العالم بروايتهم؟

كان يمكن للرياض ـ ولو نظرياً ـ لفلفة قضية خاشقجي بثمن أقل.

كان بإمكان آل سعود التفاهم سريعاً مع تركيا، وتقديم كافة المعلومات، والإعتذار، ودفع بعض (الثمن) سياسياً وربما اقتصادياً.

لكن عنجهية الأمراء أبت عليهم التنازل لأردوغان. وكانوا يقولون: ومن هو اردوغان؟ لا شيء! ثم من هو خاشقجي؟ لا شيء أيضاً. وبطريقة محمد بن سلمان الذي سأل حبيبه جارد كوشنير ـ الصهيوني صهر ترامب: (What is a big deal؟)، فهو غير قادر على ادراك سبب الاستياء الأمريكي من قتل شخص مثل خاشقجي!

 
ترامب.. حماية بقرته الحلوب حتى النهاية!

أراد الأمراء عدم التعاون مع الأتراك بشأن عمليتهم الاجرامية الفاشلة. لم يشأوا التنازل لمن يرونه عدوهم او أدنى منهم. او لم يريدوا أن ينفضحوا بقدر ما، او لم يشأوا دفع ثمن سياسي (بالتحديد)، كأن يطلب منهم اردوغان حل أزمة قطر، او اطلاق سراح بعض معتقلي الإخوان، او كف الاعلام السعودي عن شتم تركيا ورئيسها.

الغطرسة السعودية السائدة حتى الآن كانت قاتلة، فاذا اقترنت بالسذاجة وخطأ الحسابات، أصبحت عملية قتل خاشقجي كارثة بكل معنى الكلمة.

حين كبرت القضية بفعل تبنيها من قبل الواشنطن بوست، تحركت الرياض ببطء، وطلبت من أردوغان ان يسمح لها بإرسال وفد يشارك وفدا تركيا في التحقيق. وقد وافق اردوغان بعد مكالمة هاتفية أجراها الملك سلمان معه، وقد نالت موافقته شكراً واطراءً سعودياً متكرراً غير معهود من الأمراء.

ومرة أخرى، لم تشأ الرياض التعاون أمنياً مع المحققين الأتراك، وتبين أنها لم ترسل وفداً أمنياً بل أرسلت وفداً سياسياً للتفاوض من موقع دوني، برئاسة خالد الفيصل، ليقنع الأتراك بلفلفة التحقيق وقبول (عرض سعودي ما)؛ في حين كان من رأي الأتراك معرفة الحقيقة كاملة أولاً، ثم يجري التفاوض. وبسبب المماطلة السعودية، قررت وزارة الخارجية التركية بشخص وزيرها، إيقاف تعاون الوفد السعودي مع الأجهزة الأمنية التركية ووزارة الداخلية التركية، وحصر اتصالات الوفد السعودي بوزارة الخارجية التركية فقط.

كان اختيار الملك سلمان، أحد أبناء الملك فيصل، وهو خالد الفيصل، ليرأس الوفد، مقصوداً.

فهو وجه معتدل اذا ما قيس بابن سلمان والمستشارين من حوله، او حتى اذا ما قيس بوزير الخارجية عادل الجبير.

ثم إن والدة خالد الفيصل تركية الأصل، ولهذا معنى، في بلدٍ يطعن في الأتراك عنصرياً ويسخر منهم الى هذا اليوم، وهو ما تضج به كتابات السعوديين الموالين وتغريداتهم.

ومن جهة ثالثة، فإن المغدور جمال خاشقجي، ليس فقط حجازي، والحجازيون يميلون الى آل الفيصل.. بل ايضاً عمل خاشقجي ردحاً من الزمن مع أخ خالد الفيصل، وهو تركي الفيصل، في جهاز الاستخبارات. بل ان الخاشقجي عمل ايضاً مع خالد الفيصل نفسه، وكان مقرباً منه، الأمر الذي جعله يتولى رئاسة تحرير صحيفة الوطن التي أسسها.

 
المتغطرس ابن سلمان لكوشنر: What is a big deal

اختيار الملك سلمان لخالد الفيصل، كان موفقاً. لكن مساحة المناورة لخالد كانت قليلة، وكان حمق محمد بن سلمان سبباً في اخفاق مهمته، حسب مصادر سعودية وتركية. كان تشدد ابن سلمان مع الأتراك، ورفض فتح الملف الأمني او إعطاء معلومات طلبها فريق المحققين الاتراك، والتهديد بقطع العلاقات ومحاولة التدخل في التحقيقات التركية، وما يجب ان يُنشر من عدمه، قد عجّل بفشل المهمة.

اما من الناحية التركية.

فمنذ بداية أزمة خاشقجي، كان واضحاً للحكومة التركية أنها أمام (فرصة) سياسية لا يمكن تفويتها؛ وأيضاً أنها أمام (مخاطر) إن أساءت التقدير، وأخطأت التصرف.

خشي أردوغان من أن كشف تفاصيل عملية الاغتيال ليس فقط سيؤدي الى قطع العلاقات مع الرياض، بل ومع الإمارات والبحرين، وربما يتسلسل الأمر الى دول أخرى واقعة تحت النفوذ السعودي. وهذا إن جاء فإنه يزيد الطين بلّة في ظرف سياسي واقتصادي حرج لتركيا.

لكن عدم الكشف عن الجريمة الى حدّ التستّر، لا يمثل فقط تضييعاً لفرصة الكسب السياسي، بل قد تضعفه داخلياً، وتحط من شرعيته بين جمهوره، والأهم انها قد تُفقد تركيا واحدة من أهم أدوات النفوذ في المحيط الإقليمي والاسلامي، وهي التنظيمات التي تنتمي الى الإخوان المسلمين.

إزاء الانسداد في التعاون بين الجانبين، التركي والسعودي، وتسارع عمليات التسريب التركية الى الاعلام الأمريكي، وتصاعد الضغوط على ترامب من قبل الإعلام الأمريكي، وأعضاء الكونغرس.. اضطرت الرياض ـ ولأول مرة ـ أن تفتح خط حوار مع قطر، للتأثير على الموقف التركي. وظهر خبر يقول بأن وزير الخارجية عادل الجبير قد زار قطر فعلاً، ولكن هذه الرواية لم تتأكد. المؤكد هو أن تواصلاً جرى بين الرياض والدوحة بشأن قضية خاشقجي، وأن هناك طلباً سعودياً أن تخفف قطر من حدّة اعلامها وخطوطها وأدواتها، وتركيزها على الرياض؛ كما طلبت السعودية من قطر ان تتوسّط لدى أردوغان، من أجل (تخفيف تشدده) بشأن التحقيقات والتسريبات بشأن العملية السعودية التي انفضحت.

وبديهي ان قطر كانت تبحث عن حلحلة لأزمتها على أنقاض العملية السعودية الإجرامية، وقالت مصادر مطلعة بأن الدوحة لديها استعداد كامل للإنفتاح على السعودية، وحل الإشكالات معها، حتى وإن قدّمت بعضاً من التنازلات. الشيء الذي كان يصرّ القطريون عليه هو ان لا تفاهم مع محمد بن زايد، ولا مع ملك البحرين. فالدوحة تعتقد ان كل أزمتها مع السعودية تعود الى جذر واحد هو: محمد بن زايد.

لكن.. رغم هذه الرغبة القطرية، لم يثبت ان المحاولة السعودية قد نجحت، او حتى فتحت افقاً للمستقبل في العلاقات بين البلدين، وذلك لأسباب (تركية) محضة.

كان أمل الرياض منصبّاً على ترامب، أن يقوم هو بدوره في تهدئة الوضع، ومنع المزيد من الإنفضاح السعودي. لكن ترامب المتحمس للدفاع عن نفسه وعن مستقبله السياسي ومستقبل حزبه الانتخابي، واجه معارضة شديدة، فأخذ بالتقلّب في المواقف، حيث كان يعطي التصريح الواحد بما يحمل في طياته التأييد للرياض والنقيض لذلك، أي التهديد احياناً بالمحاسبة الشديدة! لكن ترامب نفسه فشل في النهاية في تغيير الوضع، تحت ضغط أعضاء الكونغرس الجمهوريين بالذات: كوركر وغراهام مثالاً.

 
أردوغان وابن سلمان: الصبيّ خسر المعركة

وإزاء الضغط الإعلامي الشديد، من سي ان ان، ونيويورك تايمز والواشنطن بوست، حيث سيل المقالات والأخبار والمتابعات والتغطيات الحيّة والعاجلة.. كان لا بد أن يدافع ترامب عن نفسه، في معرض تبرير وقوفه الى جانب محمد بن سلمان وطاقم الحكم السعودي. قال انه يدافع عن الصفقات العسكرية، وان لا مصلحة لديه شخصية أو أعمال خاصة مع آل سعود.

طبعاً لم يصدقه أحد. كما لم يصدق المشرّعون والاعلاميون الامريكيون صهره جارد كوشنر، الذي اضطر الى اجراء مقابلة مع السي ان ان، حين شعر بأنه قد يغرق في المركب السعودي، وأعطى تصريحات فُهم منها انتقاداً لحليفه محمد بن سلمان، الذي سبق وان زوده كوشنر بأسماء بعض رجال الأعمال في حملة اعتقالات الريتز.

في كل الأحوال، فإن الرياض كانت في أقصى حالات التوتر، وهي تحاول ان تبحث عن أية شخص او دولة يمكن لها ان تقوم بدور ما يخفف من الضغط عليها.

لا أوروبا كانت في مزاج الدفاع عن ابن سلمان، حتى بريطانيا.. والأسباب متنوعة:

ان ابن سلمان الذي كانت بلاده توزّع (الجزية) على كل الدول الغربية الكبرى، قام بإعطاء العقود العسكرية الكبرى والمناقصات الى أمريكا. حدث هذا في أواخر عهد أوباما وتكثف في عهد ترامب. في السابق (ومنذ ١٩٨١ ـ قضية الاواكس) صارت بريطانيا هي المورّد الأساس للطائرات المقاتلة (تورنيدو والتايفون)، ولكن منذ العهد السلماني انتقلت الأمور كلية الى أمريكا. وفرنسا التي كانت المورّد الأساس للفرقاطات والسفن الحربية لسنوات طويلة جدا، خسرت موقعها لصالح أمريكا، وكان اخر عقد وقعته الرياض مع إدارة أوباما بستين مليار دولار قيمة صفقات بحرية!

فلماذا تدافع الدولتان عن الرياض؟ والأهم، فإن ابن سلمان لم يكن يعبأ بهما، فمن يمتلك التأييد الأمريكي ـ بنظره ـ لا يحتاج الى غيره. وهذا ما دفع ابن سلمان ليقول بشكل غير عابئ، في مقابلته الأخيرة مع بلومبيرغ بشأن (الزعل البريطاني) بشأن استمرار الحرب في اليمن: ليكن!

كان خطأ استراتيجيا (على مستوى الدولة السعودية) ان تكون أسيرة حماية العواصم الغربية، بالشكل الذي يضعفها في مجال المناورة بسبب غياب الخيارات السياسية الأخرى. وجاء ابن سلمان ليضع كل البيض في سلّة (دولة واحدة) وليس عدّة عواصم غربية، فكانت النتيجة ان انسحبت تلك العواصم ورفعت دعمها عنه، وربما أرادت معاقبته!

بعض الدول الغربية كألمانيا، التي كانت تورد للسعودية أسلحة (دبابات ليوبارد ٢، وغيرها) انخفضت مبيعاتها، وهي تتوق للتخلص من بقية الصفقات التسليحية مع السعودية، وهي صغيرة على أية حال، كما قالت ميركل، وقد جمدتها مؤخراً على خلفية تصفية خاشقجي. لكن السبب الأساس، ان تحالف ميركل لديه مشكلة مع السعودية، وهي مشكلة قديمة، تتعلق بالموقف من العدوان على اليمن، ومن قضايا حقوق الانسان. وبديهي كان من السهل على ألمانيا نقد السعودية في ملف خاشقجي، وان تتخذ موقفاً متقدما نوعاً ما، باعتبارها قائدة أوروبا ليس اقتصادياً فحسب، بل وسياسياً الان، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

هناك كندا، التي سحبت الرياض سفيرها من عاصمتها اوتاوا وطردت السفير الكندي من الرياض، على خلفية اعتقال ناشطات. شعرت كندا بوضع قوي الآن، وأن نقدها السابق كان صحيحاً، وهي بإزاء إيقاف صفقات سلاح ضخمة للسعودية، وعبرت وزيرة الخارجية الكندية عن مواقف سياسية قوية ضد جريمة اغتيال خاشقجي. ومثل كندا بعض الدول الإسكندنافية، كالنرويج، التي لديها استعداد للتضحية بمكاسب اقتصادية مقابل مبادئ حقوق الانسان.

وعليه فإن الرياض التي وضعت بيضها في سلّة واحدة، لم تجد نصيراً في أوروبا. ولم تجد نصيراً لها في منطقة الشرق الأوسط يعينها، كونها حرقت سفنها وسفن حلفائها مع الدول التي يمكن ان تتوسط. فالرياض التي اعتمدت سياسة (إما معنا في كل شيء، او ضدنا في كل شيء) لم تتح فرصة لحلفائها في المنطقة ان تساعدها. فالرياض وحلفاؤها ضد ايران القريبة جداً من تركيا. مصر على عداء مع تركيا. الكويت وسلطنة عمان اللتان تخشيان غزواً عسكرياً سعودياً، شعرتا بارتياح وهما تريان العالم يضع حداً لعنجهية محمد بن سلمان وتهديداته المبطنة لهما ولغيرهما. فلماذا تقومان بوساطة او تتبرعان بدعم لطاغية مجرم، يعلمان مسبقاً ان جهدهما لن يأتي أُكله.

انطلق عادل الجبير في محاولة أخيرة الى أندونيسيا، عشية اعلان اردوغان تفاصيل الجريمة، فرفضت اندونيسيا الوساطة المتأخرة، وطلبت من الرياض الشفافية في التحقيق!

إذن: إغرق وحدك يابن سلمان!

حتى الإمارات، شريكة السعودية في أكثر الجرائم، بما فيها جريمة العدوان على اليمن، وجدت نفسها غير قادرة على الدفاع عن ابن سلمان.

نعم.. وضعت الامارات امكانياتها وعلاقاتها لدعم ابن سلمان، الى حد ان ابن زايد ألغى زيارة الى فرنسا وأخرى للأردن.

الصفحة السابقة