(٩)

ما هي آفاق مستقبل إبن سلمان السياسي؟

باعتراف الرياض انها ارتكبت الجريمة (بشكل غير مقصود)، وانفضاح الكذب، لم يبقَ الا دفع الثمن.

هناك تزايد المطالب بأن ثمناً ما يجب ان يدفعه آل سعود، حسب كل دولة وكل جهة. البعض يريد مكاسب اقتصادية، والبعض يريد مكاسب حقوقية (اطلاق سراح المعتقلين)، والبعض يريد إسقاط وإزالة محمد بن سلمان من الحكم نهائياً.

 
هل يعود ابن نايف الى السلطة؟!

إبعاد محمد بن سلمان عن ولاية العهد، بدت مطلباً كبيراً، حين عُرض أول مرة على لسان أعضاء كونغرس عُرفوا بدعمهم للسعودية ولابن سلمان شخصياً.

لكن فكرة الضغط من أجل إبعاده تتلقى زخماً متصاعداً.

فتركيا تريد ذلك، والكونغرس يريد ذلك، وأوروبا تميل الى ذلك، وقيادات إقليمية: ايران والكويت وسلطنة عمان، واليمن وغيرها تريد وتتمنى ذلك أيضاً. فضلاً عن حقيقة ان الكثيرين داخل العائلة المالكة، والمؤسسة الوهابية والمثقفين والنخب المحلية السعودية، تتمنّى إزاحته أيضاً.

السؤال: ما هو الثمن الذي ستدفعه السعودية؟ وما هو ثمن الجريمة الذي سيدفعه ابن سلمان؟

حتى الآن، خسرت الرياض الكثير من سمعتها محليا ودولياً.

مليارات الدولارات صُرفت على (تلميع) و(تصعيد) ابن سلمان، لصناعة شخصية اسطورية كاذبة.

هذه المليارات ذهبت هباءً منثوراً.

كل الإستثمار في ابن سلمان ضاع.

لم يعد هناك في الذاكرة سوى صورة شاب نزق دموي غرّ جاهل يقود بلاده والمنطقة الى بحر من الإضطرابات والعنف، غير جدير بالحكم.

بل ان ابن سلمان بفعلته الشنعاء حين قتل وقطّع جسد الخاشقجي، قد حرق سمعة كامل أفراد عائلته، وحكمهم الحالي والغابر.

خسارة آل سعود اليوم تتصاعد بمقدار بقاء ابن سلمان في السلطة. ليس فقط بسبب مقتل الخاشقجي، بل لأن كامل الرؤية السعودية العمياء التي جاء بها ابن سلمان، في جوانبها الاقتصادية والسياسية قد فشلت حدّ الإنهيار. وما مقتل الخاشقجي إلا القشّة التي قصمت ظهر البعير. ولربما لو جادل أحدنا، بأن ما جرى لابن سلمان يعكس الضعف الحقيقي له وللدولة السعودية نفسها، ما تعدّى الحقيقة. إذ لو كان ابن سلمان قوياً ما اجتمع عليه حلفاؤه لينهشوه حيّاً؛ وكما قال المثل: (اذا طاح الجمل كثرت سكاكينه).

بالنسبة للإدارة الأمريكية فإنها واعية تماماً بأن (بقاء الحكم السعودي) ضروري للأمن القومي الأمريكي ولإسرائيل، كما قال ذلك ترامب ببجاحة. وفوق المكاسب المادية التي طفق ترامب يكررها على مسامعنا منذ اليوم الأول لأزمة تصفية الخاشقجي، هناك مكاسب استراتيجية، فرغم ضعف مقام آل سعود، وقدراتهم في خدمة الاستراتيجية الأمريكية خلال العقدين الماضيين، الا انه لا بديل عن السعودية كما قال ترامب.

الإشكال الذي واجهه هو ان جريمة ابن سلمان سببها الأساس غض النظر عن جرائمه السابقة: حرب اليمن، حصار قطر، خطف الحريري، وغيرها. وقد اتهم أعضاء في الكونغرس ترامب بأن ابن سلمان (رجله) وأن سياساته هي التي سببت المشاكل. وألحوا على معاقبة ولي العهد السعودي، بدون ان يؤدي ذلك الى الإضرار بأمريكا واستراتيجيتها.

 
عزل المنشار حلّ مُرضٍ لأكثر من طرف، إلا لسلمان وابنيه!

ترامب كرر ان العقود العسكرية (١١٠ مليارات دولار) يجب ان تبقى وانه يخشى من تضييعها بمعاقبة ابن سلمان. ثم زادت الإدارة الامريكية بأن معاقبة السعودية هو اضعاف لسياسة محاصرة ايران ومواجهتها.

ومع إصرار الكونغرس لاتخاذ خطوات مباشرة منه لمعاقبة آل سعود؛ خضع ترامب ولو جزئياً، وأقرّ مسألة العقوبات حسب قانون ماغنيسكي (عدم منح تأشيرات وتجميد ارصدة أموال الأشخاص المتهمين).

السؤال المهم هنا: هل تستطيع أمريكا ان تحصر عقابها لابن سلمان (بإقالته) دون ان يصيب الحكم السعودي الضعف، واستراتيجية الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط بالشلل؟!

هذا غير ممكن بالطبع.

وبالتحديد، لا يمكن تفادي كل الخسائر بل بعضها فحسب.

يمكن بقاء الصفقات العسكرية، ولكن إزاحة ابن سلمان تعني اضعافاً للحكم السعودي، وانكفاءً له، وربما أدى الى خسارة كبيرة على صعد عديدة: قطر واليمن إضافة الى استراتيجية مواجهة ايران.

هناك بعض المحللين الاستراتيجيين (مارتن انديك مثالاً) يؤكدون على حقيقة ان الصفقات السعودية العسكرية هي أقل بكثير مما يعلنه ترامب. كما يؤكدون على أن ابن سلمان أضعف الولايات المتحدة بدلاً من مساعدتها، ليس بسبب عدم ولائه استراتيجياً لأمريكا، وإنما لحماقاته.

وبنظر المتصهين مارتن أنديك، فإن ابن سلمان أضعف المواجهة مع ايران، بسبب إصراره على حرب اليمن والاستمرار فيها بحيث اعطى ايران قوة إضافية. ثم انه حاصر قطر الشريك في الاستراتيجية الامريكية، ما أوقعها في حضن ايران اكثر فأكثر. وبدل ان تكون الأوضاع في المنطقة مستقرة وامدادات النفط آمنة، زادت أسعار النفط بسبب تصرفاته. وفي حين كان المطلوب زيادة التلاحم بين حلفاء أمريكا لمواجهة الوجود الإيراني وتفرعاته، قام باعتقال رئيس وزراء لبنان الحريري، فأضعفه في مواجهة حزب الله.. وهكذا.

 
خالد بن سلمان، غير مرغوب فيه لا كسفير ولا كولي عهد، لمشاركته في قتل الخاشقجي

وعليه، فإن الغرب عامة، وليس الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، ترى بأن محمد بن سلمان مغامر أحمق، يضرّ حلفاءه بدلاً من أن ينفعهم، وقد طفح الكيل وفاض الكأس ولا بد من العمل على استبعاده من السلطة، حتى وان كانت هناك بعض الخسائر المؤقتة. فالهدف في نهاية المطاف، حماية المصالح الامريكية والغربية عامة، وحماية النظام السعودي نفسه من أشخاص متهورين كابن سلمان. وقد قال كوركر، عضو الكونغرس، بأن بلاده لن تقبل ان تبقى مع هذا الشخص لأربعين سنة قادمة!

ومع ان الضغوط باتجاه إبعاد ابن سلمان عن السلطة، وحصر الضرر به، لا يلقى قبولاً لدى الملك سلمان، بل ان اعتراضه شديد في هذا الأمر.. الا ان الضغوط السياسية الناتجة عن التسريبات التركية قد تؤدّي الى ذلك (نشر وثائق حسّية تثبت تورط المنشار في إعطاء أوامر عملية القتل)، أو الى عُزلة سعودية عن حلفائها والعالم، والى عقوبات قد تبدو ضعيفة الآن، وربما تتزايد في المستقبل، اعتماداً على مقدار مقاومة الحكم السعودي واصراره.

وحتى لو لم يتحقق عزل ابن سلمان، فإن الأضرار ستكون كارثية على الحكم السعودي، وبالتحديد على الملك سلمان وجناحه الحاكم.

فالمملكة المُسعودة يحكمها ثلاثة اشخاص، انحصرت بهم كامل السلطة: الأب الملك سلمان، وابنيه: ولي العهد محمد، وشقيقه خالد، السفير في واشنطن.

بالنظر الى دعوات أمريكية بطرد السفير خالد، باعتباره مشاركاً في جريمة قتل خاشقجي، وتسريب خبر انه لن يعود الى واشنطن منذ بدايات الأزمة، فإن حظوظ خالد ليخلف أخاه ليست كبيرة. فلا العائلة المالكة تريده، ولا نخبة الحكم والحلفاء الغربيون يريدونه ايضاً. إذ ان المطلوب تغيير نهج المنشار ولي العهد، وليس شخصاً يستكمل سياسته.

بعض المعارضين، يتمنى او يميل الى تولّي الأمير أحمد، وزير الداخلية الأسبق، للسلطة، بحيث يكون هو ولياً لعهد شقيقه سلمان. فأحمد هو (شقيق) سلمان؛ وهو أصغر السديريين السبعة. وهو شخصية تصالحية، من الجيل القديم، يمكنها شدّ عصب العائلة المالكة وإعادة وحدتها مقابل الهزّة التي أصابتها نتيجة تصفية جمال خاشقجي. واذا كان سلمان يريد إبقاء وراثة العرش في ابنه محمد، فإن خياره الثاني ابنه خالد، وإلا شقيقه أحمد. على افتراض انه يقبل اساساً، ويستطيع في المقام الأول، إزاحة ابنه المنشار محمد بن سلمان.

الخيار الثالث الذي يحظى بتأييد جهاز السي آي أيه، هو محمد بن نايف، ولي العهد السابق، الذي تمّت اقالته ووضع تحت الإقامة الجبرية، والحجة أنه لا يؤدي عمله لأنه (مدمن مخدرات). ابن نايف هو الأقرب الى السي آي أيه، وقد منحته وساماً قبل إزاحته. ولكن إن عاد ابن نايف الى موقعه، فسوف يعاقب من أزاحه، ومن تآمر عليه ضمن جهازه (الهويريني)، سواء قام بذلك في عهد سلمان أو بعد وفاته. وهذه مقامرة لا يمكن لسلمان القبول بها.

وفي كل الأحوال، فإن إزاحة محمد بن سلمان عن السلطة ـ فيما لو حدث وهو مستبعد حتى الآن، وهو امر لم ينضج بعد ـ سيعيد مشكلة انتقال الوراثة في الحكم الى مربعها الأول. أي انها تعود الى الوراثة الأفقية، بدلاً من العمودية، التي يبدو ان سلمان قد أرساها: (أي الحكم للأب ثم الإبن ثم الحفيد).

الصفحة السابقة